~ كـنــوووزة ~

~ كـنــوووزة ~ @knoooz_2

عضوة شرف في عالم حواء

¸ღ¸° فعالية {بــــدر الانـــااااااااام}¸ღ¸° سيرة سيد البشر عليه الصلاة والسلام

ملتقى الإيمان


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد:



فليس يخفى على طالب العلم أهمّية دراسة السيرة النّبوية الشريفة وضرورة العناية بها، لأجل ذلك حرص كثير من علماء الإسلام على جمع كلّ ما يخصّ سيرته صلى الله عليه وسلّم فكتبوا في ذلك الكتب وألّفوا المؤلفات، ثمّ إنّ منهم من اقتصر على جانب فقط من جوانب سيرته صلى الله عليه وسلّم العطرة كالمغازي وغيرها ومنهم من عمّم ليشمل تأليفه جميع جوانب حياته صلى الله عليه وسلّم وحياة أصحابه والبيئة التي نشأ فيها وحال العرب قبل البعثة وبعدها. ثمّ إنّ منهم من أطال ومنهم من اختصر وفي كلّ خير إن شاء الله تعالى.



روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه)) .





وروى مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)). فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خير نسب.



وأما أبوه فهو عبد الله بن عبد المطلب ، وأكثر العلماء يقولون إنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلّم حمل، وقيل إنه مات ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنته.


وأمه عليه السلام آمنة بنت وهب.


ولد عليه السلام يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول، وقيل لعشر، وقيل لاثنتي عشرة. ولم يولد لأبيه وأمه غيره صلى الله عليه وسلم فيما ذكر. وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة عتيقة أبي لهب، أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم. وأرضعت أيضا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسروح حمزة عم رسول الله، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. ثم أرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية.



وفي السنة الرابعة من مولده ذكر أن الملكين شقا بطنه واستخرجا قلبه وشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء ثم غسلا قلبه وبطنه بالثلج، وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وأنه يشم منه مسكا، وأنه مثل زر الحجلة، ذكره البخاري.



ماتت أمه عليه السلام ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين، فقدمت به أم أيمن إلى مكة بعد موتها، فكفله جده عبد المطلب واسمه شيبة، وتوفي جده عبد المطلب في السنة الثامنة من مولده، وأوصى به إلى عمّه أبي طالب فأقام من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة ثلاثا وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذب عنه ويلطف به.



ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى فرآه بحيرا الراهب واسمه جرجيس فعرفه بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.



فقال: وما علمك بذلك؟



فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي. وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا. وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود. الحديث رواه ابن أبي شيبة، وفيه أنه أقبل عليه الصلاة والسلام وعليه غمامة تظله.



ثم خرج مرة أخرى، ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثمّ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك، وكان لها حين تزويجها برسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة، فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنين وبنات، وكل أولاده من خديجة، حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.


وخديجة أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها.



أمّا أبناؤه فهم كالتالي:


· الذكور:


1. القاسم وبه كان يكنى وهو أكبر ولده عاش أياما يسيرة، ولد قبل النبوة.


2. عبد الله.


3. الطيب.


4. الطاهر.


5. ابراهيم ولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبل موته عليه السلام بثلاثة أشهر يوم كسوف. وكان له ابنان آخران اختلف في اسمهما.



· الإناث:


1. زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع، وكانت خديجة خالته. ومات أبو العاص في خلافة عمر وولدت له عليا مات مراهقا، وأمامة تزوجها علي رضي الله عنه بعد فاطمة ولم تلد له.


2. رقية وتزجها عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يكن لها زوج غيره، فولدت له ابنا مات وله أربع سنين، ثم ماتت رقية بعد بدر بنحو ثلاثة أيام.


3. فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وابنا مات صغيرا اسمه المحسن رضي الله عنه، فتزوج زينب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له علي بن عبد الله له عقب. وتزوج أم كلثوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وماتت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر.


4. أم كلثوم وهي أصغر بناته كانت مملكة بعتبة بن أبي لهب فلم يدخل بها وطلقها، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت عنده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تلد له.



ثم أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. وحبب إليه الخلوة والتعبد لربه فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه.








ولما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة قامت قريش في بناء الكعبة وكان حينها يلقّب بالأمين لصدقه وأمانته وحسن أخلاقه.



ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وانتهوا إلى موضع الحجر تنازعوا أيهم يضعه ثمّ اتفقوا على أن يرتضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة.



فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الباب، فحكموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا لقضائه، فبسط ما كان عليه من رداء وقيل كساء وأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لأربعة رجال من قريش وأهل الرياسة فيهم والزعماء منهم: ليأخذ كل واحد منكم بجنبة من جنبات هذا الرداء، فشالوه حتى ارتفع من الأرض وأدنوه من موضعه.



ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين.



ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهدن ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.



ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي؟ فأخبرها الخبر.



لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك.



فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى. يا ليتني فيها جزع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال رسول الله: أو مخرجي هم؟



قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.



ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا.



ثمّ بينا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشي ذات يوم إذ سمع صوتا من السماء، فرفع بصره فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعب منه، فرجع إلى أهله فقال: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فحمي الوحي وتتابع.



ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله استجاب له عباد الله من كل قبيلة، فكان أول من آمن بالله ورسوله خديجة صديقة النساء، ووازرته على أمره، فخفف الله بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رضي الله عنها.



ثم أسلم أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبي قحافة واسم أبي قحافة عثمان. وهو أول من أسلم من الرجال، وقيل إن عليا أول من أسلم بعد خديجة صبي، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا معه إلى الله. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.



وبادر إلى الإسلام زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، وأول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوجة العباس، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدثت به قريش ثم إن الله سبحانه أمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره ويدعو إليه بعد ثلاث سنين من الدّعوة في السرّ إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة ونفي الشريك عنه سبحانه.



فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدع به كما أمره الله وذكر آلهة قومه وعابها، أجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.



وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب ومنعه وقام دونه، لأنه كان من أشراف قريش ومطاعيهم. ولقي من الصحابة -من لم يكن له عشيرة تحميه- من العذاب أمرا عظيما.



ثمّ افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها فيما بعد في الحضر أربعا وأقرت في السفر على فرضها ركعتين. وقيل: إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا أصحابه إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قوهم.



ثمّ لما أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعده، ثم نادى: يا صباحاه. فاجتمع الناس إليه، بين رجل يأتي إليه وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟" قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.



فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه واشتد أذى قريش على من آمن، وفتن منهم من فتن.



فلما اشتد البلاء عليهم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وقال: "إن بها ملكا لا يظلم الناس". وكان أول من هاجر عثمان ابن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، فخرجوا في جمع من الصحابة متسللين سرا في رجب من السنة الخامسة من المبعث فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريشا صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفوا عنه.



ولما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش، ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر ومن النساء تسع عشرة امرأة.



فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال وبلغ ذلك قريشا.



فلما كان في ربيع الأول من سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله كتابا إلى النجاشي -واسمه أصحمة بن الحر- يدعوه إلى الإسلام. فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته. وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر هناك ومات، فزوجه إياها، وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وكتب إليه أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ويحملهم ففعل، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر.



وفي سنة تسع من الهجرة مات النجاشي رحمه الله ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع إليه سريره بأرض الحبشة حتى رآه بالمدينة وصلى عليه.






نعود إلى مكّة وما جرى فيها من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع قومه:




فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد ويقوى، مشوا إلى أبي طالب وهددوه بفراقه وعدائه إن لم ينه ابن أخيه عن سبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم وعيب آبائهم، فأبى عليهم أبو طالب ذلك المرّة تلو المرّة لمّا رأى ثبات ويقين رسول الله صلى الله عليه وسلّم. حتى بلغ بهم الأمر أن عرضوا عليه فتى من خيرة فتيانهم يقال له: عمارة بن الوليد وقالوا له: يا أبا طالب هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل.



فقال أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، تعطونني ابنكم أغذيه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا ما لا يكون أبدا.



ثمّ قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على قومهم.



فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه سلم للقتل.



فانحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب فدخلوا معه شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقطعت قريش عنهم الأسواق حتى كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.



ثمّ إنّ نفراً من أشراف قريش تعاهدوا على نقض الصحيفة لما رأو ما حلّ ببني هاشم من الهلاك، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الحشرات قد أكلتها، إلا باسمك اللهم وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله. وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس. وذلك بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام.



وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام "عام الحزن"، ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة.



فلما مات أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه وتجرءوا عليه وكاشفوه وأصحابه بالأذى، وأرادوا قتله، فمنعهم الله من ذلك.



ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وبجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد.




ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته. وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن شماله.



ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحي ابن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته.



ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف الصديق، فسلم ورحب به.



ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به.



ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فلقي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.



ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.



فلما جاوزه بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: إن غلاما بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما دخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.



ثم رفع إلى سدرة المنتهى. ثم رفع له البيت المعمور. ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة. فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت ؟ قال: بخمسين صلاة فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأن يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئت. فعلا جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى. فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه تعالى حتى جعلها خمسا. فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.


فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس؟ قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فقال المطعم بن عدي: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا ومنحدرا شهرا، تزعم أنك أتيته في ليلة! واللات والعزى لا أصدقك. فقال أبو بكر: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته. أنا أشهد أنه صادق.





فقالوا: يا محمد، صف لنا بيت المقدس ؟ وفي القوم من سافر إليه. فذهب ينعت لهم: بناؤه كذا. هيئته كذا. وقربه من الجبل كذا. فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت، فكرب كربا ما كرب مثله، فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال. فقالوا: فكم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدها. فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله.



فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.



فقالوا لأبي بكر: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟



قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة وروحة. فبذلك سمي أبو بكر "الصديق".



ثم قالوا: يا محمد، أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم عنها في مسراه ورجوعه،وأخبرهم عن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها. وكان الأمر كما قال. فرموه بالسحر وقالوا: صدق الوليد.ولم يزدهم ذلك إلا ثبورا، وأبى الظالمون إلا كفورا.



يتبع ***** الله


12
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

~ كـنــوووزة ~
~ كـنــوووزة ~
فلما أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه للنبي الذي توعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه. -وقد كان يهود المدينة إذا كان بينهم وبين غيرهم من سكّان المدينة شيء قالوا لهم: إنّ نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم- فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى الله أن يجمعهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا رسول الله، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر، فلقوه بالعقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب.

قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه)).

ثم انصرف الأنصار إلى المدينة فأظهر الله الإسلام. وكتب الأوس والخزرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أبي مكتوم الأعمى، فصار مصعب يصلي بهم الجمعة فأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار.

ثم رجع مصعب إلى مكة في العام المقبل، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان، ، وهي العقبة الثالثة.

فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان.

فاجتمعوا في الشعب ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءهم ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه فقال العبّاس: إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم.

ثم قال صلى الله عليه وسلّم: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا حتى يكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.

فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها،فلما أذن الله ورسوله في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار،فخرجوا أرسالا، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة، وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره.

فأشار عليهم أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فيهم، ثم يُعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيستريحوا منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منهم بالعقل منه فعقلوه لهم. فقال إبليس اللعين وقد تمثّل لهم في صورة شيخ جليل: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره.فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فنجّاه الله تعالى من كيدهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أيديهم وقد أعمى الله أبصارهم ووضع على رؤوسهم التراب تحقيراً لهم.

وأذن الله لرسوله عند ذلك في الهجرة إلى المدينة وكان خروجه عليه الصلاة والسلام بعد العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها. وأخبر عليا بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر إلى الليل، ثم لحقا بغار ثور في جبل ثور.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تلك الليلة على أطراف قدميه كي يخفي أثره حتى حفيت قدماه، فحمله أبو بكر وهو يشتد به حتى أتى به الغار، فأنزله وقال: يا رسول الله دعني أدخل قبلك، فإن كان فيه حية أو شيء كان بي دونك.فقال: ادخل، فدخل أبو بكر وجعل يلتمس بيده، وكلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال فبقي جحر فوضع عقبه خشية أن يخرج على النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه، وكان فيه حيات وأفاع، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ثوبك يا أبا بكر، فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة. فأوحى الله إليه: إن الله قد استجاب لك.

فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،

وجدت قريش في طلبهما وخرجوا يقتصون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأخذوا معهم القافة حتى وصلوا إلى الغار, فقال أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رأسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا، يعني بالمعونة والنصر.

قال أبو بكر: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك المدلجي على فرس له، فدعا عليه رسول الله فارتطمت به فرسه إلى بطنها. فقال: إني أراكما قد دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم، ما ههنا. ولا يلقي أحدا إلا رده. فكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن معه فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة هزيلة ليس فيها لبن فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها، فتفاجت فدرت واجترت. فشربوا جميعاً. ثم إن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.

ولقي النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق الزبير بن العوام في ركب من المسلمين قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا.


فلمّا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة استقبله المسلمون استقبالا حسنا وكبر المسلمون فرحا بقدومه وسمعت الوجبة والتكبير. وخرج المسلمون للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه، والله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة.

فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب ناقته وأرخى زمامها لا يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فلم تزل ناقته سائرة، ولا يمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوه في النزول عليهم ويأخذون بخطام راحلته. فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها، وذلك في بني النجار أخواله، وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله إكراما لهم.

وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء مع رحله".

ومن مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة أرخ التاريخ في زمن عمر إلى يومنا هذا.

وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.

ثمّ ابتاع صلى الله عليه وسلّم مربذاً من غلامين يتيمين بالمدينة ليبني عليه مسجده -وهو مكان بروك ناقته- كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، ثمّ شرع في بناء المسجد وباشر البناء بنفسه صلى الله عليه وسلّم فجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه عليه السلام. وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بالجريد والجذوع.

فلما فرغ من البناء بنى بعائشة رضي الله عنها في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد شارعا إلى المسجد، وهو مكان حجرته اليوم، وجعل لسودة بيتا آخر.

نكح رسول الله صلى الله عليه وسلّم عائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين. وكانت أحبّ النّاس إليه ولم ينكح بكراً غيرها وكانت مدة مقامها معه عليه السلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة. وكانت فقيهة عالمة فصيحة تقيّة نقيّة صدّيقة، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي زوجه في الدنيا والآخرة وأمّ المؤمنين وشرفهم وإن رغمت أنوف المنافقين من الروافض المشركين.

ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا: نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى وقعة بدر. فلما أنزل الله ((وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)) رد التوارث إلى الرحم دون عقدة الأخوة.

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وشرع الأذان وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام.


فلما رأت العرب واليهود ما صار عليه حال رسول الله مع إخوانه رموهم عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. وصاحوا بهم من كل جانب. والله يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرض عليهم، فقال تعالى ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)) وهذه أول آية نزلت في الجهاد.

ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) ، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقال ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) أي لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون الدين لله أي حتى يعبدوا الله لا يعبدوا معه غيره.
فكان القتال محرما. ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال. ثم مأمورا به لجميع المشركين.
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب القتال أول النهار كما يستحب الخروج للسفر أوله، فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى نزول الشمس وتهب الرياح وبنزل النصر.

وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفروا، وربما بايعهم على الموت. وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام،وبايعهم على الهجرة قبل الفتح.

وبايعهم على لتوحيد والتزام طاعة الله ورسوله، وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، وكان السوط يسقط من يد أحدهم فينزل فيأخذه ولا يقول لأحد ناولني إياه, وكان يشاور أصحابه في الجهاد ولقاء العدو أو تخير المنازل.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعهم وكتب بينه وبينهم كتابا، ولكنّ أحبار اليهود ناصبوه العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم. وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
فحاربته الثلاث، فمنّ على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة وسبى ذريتهم ونساءهم. ونزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة. وقد كان حبرهم وعالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام ثد بادر فدخل في الإسلام حين وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان من بني قينقاع، وأبى عامة اليهود إلا الكفر والعناد.


ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار ثلاثة أقسام: قسم صالحهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره. ومن هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن.

وكان في الدينة رجل يُدعى عبد الله بن أبي بن سلول من أشرافها وساداتها وكان أهل المدينة قد أجمعوا على تنصيبه ملكاً عليهم، فجاءهم الله برسوله وهو على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا. فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل كارها مصرا على نفاقه وضغنه.






~ كـنــوووزة ~
~ كـنــوووزة ~
غزواته وسراياه وبعوثه :


قاد خلال الإحدى عشرة سنة التي عاشها بالمدينة نحوًا من ثمانٍ وعشرين غزوة، وأرسل نحوًا من أربع وخمسين سرية وخمسة بعوث.

ومن أشهر الغزوات: بدر الكبرى، أُحد، بنوقينقاع، بنو النضير، ذات الرقاع، الخندق (الأحزاب)، بنو قريظة، بنو المصطلق(المريسيع)، الحديبية، خيبر، فتح مكة، حنين، تبوك. ومن أشهر السرايا: الخبط (سيف البحر)، نخلة، مؤتة.

ومن أشهر البعوث :
الرجيع، بئرمعونة.
وقد نجحت هذه الغزوات والسرايا في أهدافها، خصوصًا في إضعاف العدو، وحصول المسلمين على مواردمادية لتقوية جيوشهم، كما أدت هذه الغزوات والسرايا إلى هزيمة المشركين في النهاية.



رسائله إلى الزعماء.
أرسل النبي عدة رسائل إلى رؤساء البلاد داخل الجزيرة العربية وخارجها يدعوهم فيها إلى الإسلام، وذلك بعد صلح الحديبية الذي أبرم في العام السادس الهجري.


وممن أرسل إ ليهم:
النجاشي الحبشي، وكسرى الفارسي، وهِرَقل (قيصر) الروم، والمقوقس القبطيالمصري، والحارث بن أبي شمر الغساني، وهوذة بن علي الحنفي اليمامي، والمنذر بن ساوي العبدي البحريني، ثم ابنا الجلندي العمانيان
.
الوفود:
عندما توطدت أركان الإسلام، في العام التاسع الهجري على وجه الخصوص، قدمت وفود العرب إلى المدينة لتعلن إسلامها، ومن أشهر هذه الوفود: بنو تميم، وعبد القيس، وبنو حنيفة ونجران، وطيء، والأشعريون، وبنو عامر، وجذام، وبنو سعد، وكندة، وزبيد، وثقيف، وبنوأسد، وهمدان، وبنو سليم، وتجيب، وغامد، ومذحج

حجة الوداع ووفاته


قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من ذلكم الوقت كان فردًا وحيدًا، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله.
ها هم اليوم مائة وأربعة وأربعون ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معان النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة لأولياء الله وجنده، مهما حوربت الدعوة وضيق عليها، وسامها الأعداء ألوان العداء والاضطهاد، فإن العاقبة للحق ولأهل الحق العاملين المصلحين: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ .
سار ذلكم الركب المبارك يدوس الأرض، التي عذّب من عذّب فيها، وسحب على رمضائها مَنْ سُحِب، ساروا يمرّون على مواضع لم تزل ولن تزال عالقة في ذكراهم، سيموا فيها ألوان العذاب والقهر والعنت، سار صلى الله عليه وسلم ليدخل المسجد الحرام الذي لطالما استقسم فيه بالأزلام، وعبدت فيه الأصنام، دخله طاهرًا نقيًا، تردد أركانه وجنباته لا إله إلا الله، ورجع الصدى من جبال بكة ينادي: لبيك اللهم لبيك.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة نزل بطن الوادي من منى فخطب في ذلكم الجمع الغفير: ((أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) أخرجه ابن ماجه.
وأخرج مسلم أنه قال: ((وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً.
وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري.
ولما قضى مناسكه حث المسير عائدًا إلى طيبة الطيبة.
في أوائل صفر سنة إحدى عشرة للهجرة خرج عليه الصلاة والسلام إلى أحد، فصلى على الشهداء، كالمودع للأحياء والأموات.
ثم انصرف إلى المنبر فقال: ((إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) متفق عليه.
وخرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون)).
وفي يوم الإثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه السلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق، أخذه صداع في رأسه واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه، فدخل على عائشة وقالت: وارأساه! قال: ((بل أنا وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك)). فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرّست فيه ببعض نسائك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبًا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالمعوذات والأدعية تنفث على نفسه وتمسحه بيده رجاء بركته.
وفي يوم الأربعاء اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأقعدوه في مخضبلحفصة، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: ((حسبكم، حسبكم))، وعند ذلك أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر خطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد ثم قال: من كنت جَلَدْتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه)).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((أعطه يا فضل))، ثم أوصى بالأنصار قائلاً: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))، وفي رواية: ((إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) البخاري.
ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده)).
قال أبو سعيد الخدري: (فبكى أبو بكر، قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) متفق عليه.
وفي يوم الخميس أوصى عليه السلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس وقرأ بالمرسلات، وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد.
قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك. فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه. ثم الثالثة فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف]، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمِع الناسَ، فلو أمرت عمر، قال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالناس))، فقالت لحفصة في ذلك فراجعته كما راجعته عائشة، فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)).
وفي يوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: ((أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير)) رواه البخاري.
وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت من جارتها للمصباح، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير.
وفي يوم الاثنين بينا المسلمون في صلاة الفجر ـ كما روى البخاري عن أنس ـ وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة.
قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها طَلَّة الفراق، لن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، ولما ارتفع الضحى دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك، أي: فيما بعد، فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، فسارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. رواه البخاري.
وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب فقالت: واكرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم)).
فأوصى الناس فقال: ((الصلاة. الصلاة، وما ملكت أيمانكم))، كرر ذلك مرارًا. أخرجهما البخاري.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.
دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، وبين يديه ركوةفيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) أخرجه البخاري.
وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، كررها ثلاثًا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.

قال أنس بن مالك: ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل نفاه.


محبة النبي صلى الله عليه وسلم

قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ).


قال الشيخ صالح الفوزان :

من فوائد هذا الحديث :
في هذا الحديث بيان لأصل عظيم قام عليه هذا الدين المتين ، وهو كما أننا أمرنا بعبادة رب واحد لا شريك له ، فقد أمرنا بإزاء ذلك أن نتبع نبياً ونطيعه فيما قال و أمر ، و هذا من مقتضيات المحبة ،

قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري : .

و لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : ” لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ” فقال عمر : والله أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : ” الآن يا عمر ”

.
فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين ، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة ، وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ }


وسئل بعضهم عن المحبة ، فقال : الموافقة في جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق : أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة ، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي : كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء ، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا : دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه . وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس ، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل .


هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات . فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة ، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض ، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها ]


و قال الإمام النووي :

وقال ابن بطال ، والقاضي عياض ، وغيرهما رحمة الله عليهم


: المحبة ثلاثة أقسام :
- محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ،
- ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ،
- ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس


فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته .


قال ابن بطال رحمه الله : ومعنى الحديث : أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار ، وهدينا من الضلال .


قال القاضي عياض رحمه الله : ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني حضور حياته ؛ فيبذل ماله ونفسه دونه .


قال : وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك ، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد ، وولد ، ومحسن ، ومفضل . ومن لم يعتقد هذا ، واعتقد سواه ، فليس بمؤمن . هذا كلام القاضي رحمه الله . والله أعلم ]


فالمطلوب من المسلم أن يقدم حب النبي صلى الله عليه وسلم على كل محبوب من ولد و أب و مال ، و المطلوب منه إيثار نبيه الذي هو أولى به من أقرب أقربائه ، و الذي كان سبب في نعمة الإسلام له ،

تلك النعمة العظيمة التي لا تقارن بأخرى ففيها فلاح العبد في الآخرة و الدنيا قال السيوطي

قال الحليمي : أصل هذا الباب أن تقف على مدائح رسول الله صلى الله عليه وسلم و المحاسن الثابته له في نفسه ، ثم على حسن آثاره في دين الله ، و ما يجب له من الحق على امته شرعاً وعادة ، فمن أحاط بذلك وسلم عقله ، علم أنه أحق بالمحبة من الوالد الفاضل في نفسه البر الشفيق على ولده ]

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
و اعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول أهل السنة يدعون إليها و لا يتهاونون فيها :
قال الشيخ صالح الفوزان :

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة اللّه وتعظيمه ، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه ، فإن أمته يحبونه لمحبة اللّه له ويعظمونه ويجلونه لإجلال اللّه له ، فهي محبة من موجبات محبة اللّه والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى اللّه عليه من المهابة والمحبة . ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر ولا أهيب وأجل في صدره من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صدور أصحابه رضي اللّه عنهم .
قال عمرو بن العاص بعد إسلامه : إنه لم يكن شخص أبغض إليَّ منه . فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إليه منه ، ولا أجل في عينه منه ، قال : ولو سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ، لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالا له (متفق عليه ) ، وقال عروة بن مسعود لقريش : يا قوم واللّه لقد وفدت إلى كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم ، واللّه ما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيدلك بها وجهه وصدره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (متفق عليه ) ]


و قال في إعانة المستفيد

فدل هذا الحديث: على وجوب محبة الرسول بعد محبة الله عزّ وجلّ، وأن محبة الله ومحبة رسوله تقتضيان المتابعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم المخالفة، وأنه لو أمرك أيُّ أحدٍ من الناس بأمر يخالف أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب عليك معصيته ورفض ما يأمرك به، والأخذ بأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكما تجب محبة الله عزّ وجلّ تجب محبة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ] ا.هـ


قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري :

وارجو من الله عز وجل ان يحببنا الى رسولنا عليه افضل الصلاة والسلام وجزاكم الله خيرا والحمد لله رب العالمين.
نعيمي في جنتي
نعيمي في جنتي
غزواته وسراياه وبعوثه : قاد خلال الإحدى عشرة سنة التي عاشها بالمدينة نحوًا من ثمانٍ وعشرين غزوة، وأرسل نحوًا من أربع وخمسين سرية وخمسة بعوث. ومن أشهر الغزوات: بدر الكبرى، أُحد، بنوقينقاع، بنو النضير، ذات الرقاع، الخندق (الأحزاب)، بنو قريظة، بنو المصطلق(المريسيع)، الحديبية، خيبر، فتح مكة، حنين، تبوك. ومن أشهر السرايا: الخبط (سيف البحر)، نخلة، مؤتة. ومن أشهر البعوث : الرجيع، بئرمعونة. وقد نجحت هذه الغزوات والسرايا في أهدافها، خصوصًا في إضعاف العدو، وحصول المسلمين على مواردمادية لتقوية جيوشهم، كما أدت هذه الغزوات والسرايا إلى هزيمة المشركين في النهاية. رسائله إلى الزعماء. أرسل النبي عدة رسائل إلى رؤساء البلاد داخل الجزيرة العربية وخارجها يدعوهم فيها إلى الإسلام، وذلك بعد صلح الحديبية الذي أبرم في العام السادس الهجري. وممن أرسل إ ليهم: النجاشي الحبشي، وكسرى الفارسي، وهِرَقل (قيصر) الروم، والمقوقس القبطيالمصري، والحارث بن أبي شمر الغساني، وهوذة بن علي الحنفي اليمامي، والمنذر بن ساوي العبدي البحريني، ثم ابنا الجلندي العمانيان . الوفود: عندما توطدت أركان الإسلام، في العام التاسع الهجري على وجه الخصوص، قدمت وفود العرب إلى المدينة لتعلن إسلامها، ومن أشهر هذه الوفود: بنو تميم، وعبد القيس، وبنو حنيفة ونجران، وطيء، والأشعريون، وبنو عامر، وجذام، وبنو سعد، وكندة، وزبيد، وثقيف، وبنوأسد، وهمدان، وبنو سليم، وتجيب، وغامد، ومذحج حجة الوداع ووفاته قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من ذلكم الوقت كان فردًا وحيدًا، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله. ها هم اليوم مائة وأربعة وأربعون ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معان النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة لأولياء الله وجنده، مهما حوربت الدعوة وضيق عليها، وسامها الأعداء ألوان العداء والاضطهاد، فإن العاقبة للحق ولأهل الحق العاملين المصلحين: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. سار ذلكم الركب المبارك يدوس الأرض، التي عذّب من عذّب فيها، وسحب على رمضائها مَنْ سُحِب، ساروا يمرّون على مواضع لم تزل ولن تزال عالقة في ذكراهم، سيموا فيها ألوان العذاب والقهر والعنت، سار صلى الله عليه وسلم ليدخل المسجد الحرام الذي لطالما استقسم فيه بالأزلام، وعبدت فيه الأصنام، دخله طاهرًا نقيًا، تردد أركانه وجنباته لا إله إلا الله، ورجع الصدى من جبال بكة ينادي: لبيك اللهم لبيك. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة نزل بطن الوادي من منى فخطب في ذلكم الجمع الغفير: ((أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) أخرجه ابن ماجه. وأخرج مسلم أنه قال: ((وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات. ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً[المائدة:3]. وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري. ولما قضى مناسكه حث المسير عائدًا إلى طيبة الطيبة. في أوائل صفر سنة إحدى عشرة للهجرة خرج عليه الصلاة والسلام إلى أحد، فصلى على الشهداء، كالمودع للأحياء والأموات. ثم انصرف إلى المنبر فقال: ((إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) متفق عليه. وخرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون)). وفي يوم الإثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه السلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق، أخذه صداع في رأسه واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه، فدخل على عائشة وقالت: وارأساه! قال: ((بل أنا وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك)). فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرّست فيه ببعض نسائك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبًا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالمعوذات والأدعية تنفث على نفسه وتمسحه بيده رجاء بركته. وفي يوم الأربعاء اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأقعدوه في مخضبلحفصة، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: ((حسبكم، حسبكم))، وعند ذلك أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر خطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد ثم قال: من كنت جَلَدْتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه)). ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((أعطه يا فضل))، ثم أوصى بالأنصار قائلاً: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))، وفي رواية: ((إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) البخاري. ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده)). قال أبو سعيد الخدري: (فبكى أبو بكر، قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) متفق عليه. وفي يوم الخميس أوصى عليه السلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم. ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس وقرأ بالمرسلات، وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك. فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه. ثم الثالثة فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام. وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمِع الناسَ، فلو أمرت عمر، قال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالناس))، فقالت لحفصة في ذلك فراجعته كما راجعته عائشة، فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)). وفي يوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: ((أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير)) رواه البخاري. وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت من جارتها للمصباح، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير. وفي يوم الاثنين بينا المسلمون في صلاة الفجر ـ كما روى البخاري عن أنس ـ وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا. إنها طَلَّة الفراق، لن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، ولما ارتفع الضحى دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك، أي: فيما بعد، فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، فسارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. رواه البخاري. وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب فقالت: واكرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)). ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم)). فأوصى الناس فقال: ((الصلاة. الصلاة، وما ملكت أيمانكم))، كرر ذلك مرارًا. أخرجهما البخاري. وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، وبين يديه ركوةفيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) أخرجه البخاري. وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، كررها ثلاثًا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. قال أنس بن مالك: ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل نفاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ). قال الشيخ صالح الفوزان : [وقوله: "لا يؤمن أحدكم" ليس نفياً لأصل الإيمان، وإنما هو نفيٌ لكمال الإيمان، أي: لا يكمُل إيمان أحدكم هذا إذا كان يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لا يقدم محبته على محبة غيره من الخلق. أما إذا كان الإنسان لا يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً، بل يبِغض الرسول، فهذا كافر، أما الذي يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه يقدِّم محبة ولده ووالده على محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا ناقصُ الإيمان، بل لا يكمُل إيمان العبد ولا يتم حتى يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبَّ إليه من نفسه التي بين جنبيه، وأحب إليه من ولده الذي هو بضْعَةٌ منه وجزءٌ منه، وأحب إليه من والده الذي هو أصله والمحسِن إليه، وأحب إليه من النّاس أجمعين أيًّا كانوا ] من فوائد هذا الحديث : في هذا الحديث بيان لأصل عظيم قام عليه هذا الدين المتين ، وهو كما أننا أمرنا بعبادة رب واحد لا شريك له ، فقد أمرنا بإزاء ذلك أن نتبع نبياً ونطيعه فيما قال و أمر ، و هذا من مقتضيات المحبة ، قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري : [محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل ، وقد قرنها الله بها ، وتوعد من قدم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك ، فقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24] . و لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : ” لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ” فقال عمر : والله أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : ” الآن يا عمر ” . فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين ، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة ، وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] وسئل بعضهم عن المحبة ، فقال : الموافقة في جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق : أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة ، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي : كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء ، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا : دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه . وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس ، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل . هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات . فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة ، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض ، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها ] و قال الإمام النووي : [قال الإمام أبو سليمان الخطابي : لم يرد به حب الطبع ، بل أراد به حب الاختيار ، لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه . قال : فمعناه لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك ، وتؤثر رضاي على هواك ، وإن كان فيه هلاكك . هذا كلام الخطابي . وقال ابن بطال ، والقاضي عياض ، وغيرهما رحمة الله عليهم : المحبة ثلاثة أقسام : - محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ، - ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ، - ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته . قال ابن بطال رحمه الله : ومعنى الحديث : أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار ، وهدينا من الضلال . قال القاضي عياض رحمه الله : ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني حضور حياته ؛ فيبذل ماله ونفسه دونه . قال : وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك ، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد ، وولد ، ومحسن ، ومفضل . ومن لم يعتقد هذا ، واعتقد سواه ، فليس بمؤمن . هذا كلام القاضي رحمه الله . والله أعلم ] فالمطلوب من المسلم أن يقدم حب النبي صلى الله عليه وسلم على كل محبوب من ولد و أب و مال ، و المطلوب منه إيثار نبيه الذي هو أولى به من أقرب أقربائه ، و الذي كان سبب في نعمة الإسلام له ، تلك النعمة العظيمة التي لا تقارن بأخرى ففيها فلاح العبد في الآخرة و الدنيا قال السيوطي قال الحليمي : أصل هذا الباب أن تقف على مدائح رسول الله صلى الله عليه وسلم و المحاسن الثابته له في نفسه ، ثم على حسن آثاره في دين الله ، و ما يجب له من الحق على امته شرعاً وعادة ، فمن أحاط بذلك وسلم عقله ، علم أنه أحق بالمحبة من الوالد الفاضل في نفسه البر الشفيق على ولده ] قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : [ فالواجب أن نقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة كل أحد ؛ على محبة الولد و الوالد و الأهل و المال و النفس أيضاً . ولكن إذا قال قائل : كيف الطريق إلى ذلك و ما هي العلامة ؟ فالجواب أن نقول : أما العلامة فهي أن نقدم أمر الرسول عليه الصلاة و السلام على هوى نفسك ؛ فإن هذا هو أكبر علامة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليك من نفسك ، فإذا أمر الرسول بشيء و نفسك تهوى أن لا تفعل ، أو نهى عن شيء و نفسك تهوى أن تفعله ، ثم خالفت النفس فمعنى هذا أن الرسول عليه الصلاة و السلام أحب إليك من نفسك ، و إلا لاتبعت هوى نفسك ، و تركت أمر الرسول . ثم إن الإنسان كلما ازداد استحضاراً لمتابعة الرسول عليه الصلاة و السلام في أعماله ، و أخلاقه فإنه تزداد محبته للرسول ؛ يعني : أنك لو كنت تستشعر عند الوضوء و الصلاة و الصيام و غيرها من العبادات و كذلك في معاملة الناس بالأخلاق الفاضلة و الإحسان إليهم أنك بذلك متأسّ يالرسول عليه الصلاة و السلام و متابع له ، فإن ذلك يُنمي محبتك له و يجعلك تابعاً له متابعة تامة ] و اعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول أهل السنة يدعون إليها و لا يتهاونون فيها : قال الشيخ صالح الفوزان : [ ففي هذا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة ومقدمة على محبة كل شيء سوى محبة اللّه ، فإنها تابعة لها لازمة لها ، لأنها محبة في اللّه ولأجله ، تزيد بزيادة محبة اللّه في قلب المؤمن وتنقص بنقصها ، وكل من كان محبّا للّه فإنما يحب في اللّه ولأجله . ومحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي تعظيمه وتوقيره واتباعه وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق وتعظيم سنته . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة اللّه وتعظيمه ، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه ، فإن أمته يحبونه لمحبة اللّه له ويعظمونه ويجلونه لإجلال اللّه له ، فهي محبة من موجبات محبة اللّه والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى اللّه عليه من المهابة والمحبة . ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر ولا أهيب وأجل في صدره من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صدور أصحابه رضي اللّه عنهم . قال عمرو بن العاص بعد إسلامه : إنه لم يكن شخص أبغض إليَّ منه . فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إليه منه ، ولا أجل في عينه منه ، قال : ولو سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ، لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالا له (متفق عليه ) ، وقال عروة بن مسعود لقريش : يا قوم واللّه لقد وفدت إلى كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم ، واللّه ما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيدلك بها وجهه وصدره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (متفق عليه ) ] و قال في إعانة المستفيد [وهذا يقتضي أن الإنسان يقدِّم طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طاعة غيره: فإذا أمرك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر وأمرك والدك أو ولدك أو أحد من النّاس بأمر يخالف أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجب عليك معصية هذا الآمر وطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الدليل على محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن لا تقدّم على محبته شيئاً، ولا تقدّم على طاعة الرسول شيئاً، فإذا أمرك أحد بمخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تطعه ولو كان أقرب النّاس إليك ولو كان أحب النّاس إليك، فطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدَّمة، وهي ثمرة محبته ومن علامات محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك ما لم يشرعه الرسول من البدع والمحدثات لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود عليه عمله هذا. أما الذي يدّعي أنه يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويُقيم الموالد والاحتفالات المبتدعة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهاه عن البدع والمحدثات، فلا يطيعه، وإنما يطيع المخرِّفين والدجَّالين في هذا، فهذا كاذبٌ في محبّته للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن البدع والمحدَثات والخُرافات ولو كان النّاس عليها ولو كان عليها أبوك أو ابنك أو أقرب النّاس إليك، فمن كان عنده بدعة ومخالفة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب عليك معصيته، فإذا أطعته فإن هذا دليل على عدم صدق محبتك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالحاصل؛ أنه ليس الدليل على محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوى تُقال، أو احتفال يُقام، لأن الدليل على محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: متابعته، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع عليه الصلاة والسلام. هذا هو الدليل على محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن لا نقبل الدعوى، وإنما نقبل الدليل على الدعوى. فالذين يعملون بالسنّة ويتركون البدع فهذا دليلٌ على محبتهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما الذين يدّعون أنهم يحبُّون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنهم يخالفونه فيرتكبون ما نهى عنه ويتركون ما أمر به طاعةً لأنفسهم أو طاعة لغيرهم فإن هذا دليل على عدم صدقهم في محبتهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" بل ومن نفسه. فإذا أراد أحدٌ منّا أن يختبر إيمانه فلينظر إلى موقع هذا الحديث منه ويطبِّقه على نفسه، هل هو يحب الرسول، أحب إليه من نفسه، هل يحب الرسول أحب إليه من والده وولده والنّاس أجمعين؟، فإن كان كذلك فهو يحبُّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدليل على ذلك- كما ذكرنا-: الموافقة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتنفيذ أوامره وترك نواهيه واجتناب البدع والمحدثات التي نهى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كان عليها أقرب النّاس إليه أو أحب النّاس إليه، يتركها طاعةً لله وطاعةً لرسوله، ومحبةً لله ومحبةً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدل هذا الحديث: على وجوب محبة الرسول بعد محبة الله عزّ وجلّ، وأن محبة الله ومحبة رسوله تقتضيان المتابعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم المخالفة، وأنه لو أمرك أيُّ أحدٍ من الناس بأمر يخالف أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب عليك معصيته ورفض ما يأمرك به، والأخذ بأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكما تجب محبة الله عزّ وجلّ تجب محبة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ] ا.هـ قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري [13] : [ وأما محبة الرسول : فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به ، وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته - كما سبق - ، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله ، كما قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31] وارجو من الله عز وجل ان يحببنا الى رسولنا عليه افضل الصلاة والسلام وجزاكم الله خيرا والحمد لله رب العالمين.
غزواته وسراياه وبعوثه : قاد خلال الإحدى عشرة سنة التي عاشها بالمدينة نحوًا من ثمانٍ وعشرين...
اسال الله جل جلاله ان يرفع قدرك ويسددك
متجر ضي القمر
متجر ضي القمر
جزاك الله خير
الحاجة ام طه
الحاجة ام طه
اللهم صلى على محمد وعلى اهله محمد