مواقف نادرة في التاريخ البشري للفاروق عمر بن الخطاب

الملتقى العام

مواقف نادرة في التاريخ البشري للفاروق عمر بن الخطاب


الفاروق مُنـَظـِّرُ الثورة الفرنسية كما يراه خطيبها لافاييه

الحلقة الأولى:


بعد أن تحررت فرنسا من الظلم الذي خيم عليها عبر الحكومات التي كانت تضرب الشعب بالكرباج والحديد ، قامت الإحتفالات والأفراح بنجاح الثورة ، وعندما وضع قادة فرنسا بيانا لثورتهم، تفاجأ خطيب الثورة الفرنسية (لافاييه) ، بل صُدم عند قراءته البيان الأول للثورة وقرأ:
"يولد الرجل حرا ولا يجوز استعباده".
فرفع لافييه رأسه وقال:
"أيها الملك العربي العظيم عمر بن الخطاب، أنت الذي حققت العدالة كما هي "...


كيف صار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منظرا للثورة الفرنسية ؟
صار منظرا يوم أمر عمر بن الخطاب الشاب القبطي المسيحي بضرب ابن عمرو بن العاص حاكم مصر في حضرة كبار الصحابة وأمام أبيه عمرو بن العاص ، وقال قولته المشهورة:
"اضرب ابن الأكرمين، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!!" ..
أليس هذا بيانا للتعايش الحقيقي وإعلانا لحقوق الإنسان واحترام آدميته وإقرار مبدأ العدل والمساواة؟

صار عمر الفاروق منظرا للثورة للفرنسية باقتباسها مقولته الشهيرة، لكن قادة الثورة أخطأوا في النقل عندما حصروا الحرية في الرجل بينما الفاروق عمم الحرية على الناس ذكرانا كانوا أم إناثا، لأن من علم عمر ودرسه هو قرة عينه عليه الصلاة والسلام المبعوث رحمة للعالمين بدين الحق والحرية والعدل والمساواة!!

وعمر الفاروق صار أيضا منظرا لكل حاكم يحكم بالعدل، ولكل ثورة أو حركة أو هيئة تحاول تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وذالك كما قال شاعر النيل في ملحمته الكبرى عن عمر، وفيها قصته مع زوجه (زوجته) أم كلثوم ابنة فاطمة الزهراء وابنة علي بن أبي طالب وقد كانت توفر من مصروفها وتقتر على نفسها لتشتري حلوى:


إن جاع في شدة قومٌ شركتهم **** في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة و الدنيا بقبضته **** في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص و سيرته **** أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها **** من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمتطي شهوات النفس جامحة **** فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
و هل يفي بيت مال المسلمين بما **** توحي إليك إذا طاوعت موحيها
قالت لك الله إني لست أرزؤه **** مالا لحاجة نفـس كنـت أبغـيها
لكن أجنب شيأ من وظيفتنا **** في كل يوم على حـال أسويـها
حتى إذا ما ملكنا ما يكافئـها **** شـريتـها ثـم إنـي لا أثنـيها
قال اذهبي و اعلمي إن كنت جاهلة **** أن القناعة تغني نفس كاسيها
و أقبلت بعد خمس و هي حاملة **** دريهمات لتقضي من تشهيها
فقال نبهت مني غافلا فدعي **** هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها
ويلي على عمر يرضى بموفية **** على الكفاف و ينهى مستزيدها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمين به **** أولى فقومي لبيت المال رديها
كذاك أخلاقه كانت و ما عهدت **** بعـد النبـوة أخلاق تحـاكيها

الموضوع مميز جدا ومنقول
يتبع
24
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

عاشقة الصداقة
الحلقة الثانية

محكمة العدل الإسلامية


كان الأقباط ممنوعين من ممارسة شعائرهم من قِبل الرومان وقد صادروا كنائسهم وحولوا الأقباط إلى عبيد وخدم بشهادة المؤرخين الأقباط والأوربيين، ويقول القبطي المصري الدكتور نبيل لوقا بباوي عن تعذيب الرومان للأقباط:
(حدث في المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير وبين ما فعله بعض أتباعها في البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب ، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها ، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التي وقعت على المسيحيين الكاثوليك ، لا سيما في عهد الإمبراطور دقلديانوس الذي تولى الحكم في عام 248م ، فكان في عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس في مصر بإلقائهم في النار أحياء على الصليب حتى يهلكوا جوعا ، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان ، أو كانوا يوثقون في فروع الأشجار ، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعي فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إربا إربا..) ..
وقال الدكتور نبيل لوقا بباوي: (إن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحي إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء ، وأرخوا به التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية إلتي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا ، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتي على يد الراهب مارتن لوثر الذي ضاق ذرعا بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران).

وبعد الفتح الإسلامي تم تحرير كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى الأقباط مما جعل الأقباط أنفسهم ينسلخون من المسيحية ويدخلون في الإسلام أفواجا..


ساد العدل وعاش الناس في أمان، وتذوق الناس مباديء حقوق الإنسان واقعا لا خيالا، فانتعشت الحياة الإقتصادية والإجتماعية، وصار وئام ووفاق بين المسلمين والمسيحيين، وانتشرت مسابقات ركوب الخيل في مصر بعد الفتح، وفي إحدى المسابقات كان من بين المتسابقين ابن حاكم مصر عمرو بن العاص وعدد من شبان الأقباط، وبعد جولة أو جولتين فاز بالسباق أحد الأقباط المغمورين، فاستدار ابن الأمير، كأنما هو قد أهينت كرامته!! أقبطي يسبق إبن ملك مصر؟ فمال على رأس القبطي وضربه بالسوط وقال له: "أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟"، فغضب والد الغلام القبطي وسافر ومعه ابنه من مصر إلى المدينة المنورة يشكو إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هَتْكَ العدالة والحرية التي أنعم بها الإسلام عليهم، ويطلب منه إنصاف ولده، ولما استمع عمر بن الخطاب إلى شكوى الرجل تأثر كثيرا وغضب غضبا شديدا، فكتب إلى والي مصر عمرو بن العاص رسالة مختصرة يقول فيها: "إذا وصلك خطابي هاذا فاحضر إليّ وأحضر ابنك معك"!..

وحضر عمرو بن العاص ومعه ولده امتثالا لأمر أمير المؤمنين، وعقد عمر بن الخطاب محكمة ليست عسكرية ولا أمنية ولكنها محكمة إسلامية للطرفين تولاها بنفسه، وجمع عمر الصحابة ليشاهدوا نتائج الحكم، وعندما تأكد له اعتداء ابن والي مصر على الغلام القبطي، أخذ عمر بن الخطاب عصاه وأعطاها للغلام القبطي وقال قولته المشهورة: "اضرب ابن الأكرمين، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!!" ، وهاذا الإكتشاف الخطير لحقوق الإنسان لم يكتشفه الغربيون إلا حديثا حيث يقولون إن جان جاك روسو، صاحب كتاب "العقد الاجتماعي"، قرر عام 1750 بعد اختراع عجيب أن (الانسان يولد حرا) !! وعندما قرأ خطيب الثورة الفرنسية (لافاييه) بيان الثورة الفرنسية الأول صـُدِم عندما قرأ: " يولد الرجل حرا ولا يجوز استعباده"، فرفع لافييه رأسه وقال:
"أيها الملك العربي العظيم عمر بن الخطاب، أنت الذي حققت العدالة كما هي"...

الإسلام إذن نشر العدل والمباديء والمثل الإسلامية العليا، وانتشر عدل عمر وملأ الأفاق، وعندما ضرب ابن عمرو بن العاص الشاب القبطي، تذكر القبطي أن الإسلام لا يقبل هذا التصرف ومن أجل ذالك لا بد من الشكوى وأخذ الحق من خليفة المسلمين في المدينة، فما كان لابن الحاكم أن يعتدي على مواطن عادي لأنه ابن الحاكم!! فقد ولدت كل النساء أولادهن أحرارا، وربما كانت تلك الشكوى من القبطي امتحانا للإسلام المتمثل وقتئذ في خليفة المسلمين عمر، وربما كانت نوعا من التحدي بين من يرى أنه سيأخذ حقه وبين من كان يظن أن هناك تفريق بين أولاد الحكام وأولاد المحكومين!!..
فهل عرف العالم حاكما مسلما وحكما إسلاميا كحكم رسول الله ثم أبي بكر وعمر؟


يتبع مع وفد كسرى...
عاشقة الصداقة
الحلقة الثالثة
وفد كسرى مع الحرس الجمهوري للفاروق حول قصره العامر



يسمي الروم والفرس عمر ملك العرب، وحق لهم أن يتصوروا ذالك لأنهم لم يعرفوا الإسلام ويعرفوا نبيه وخليفتيه أبابكر وعمر، فكانوا يظنون عمر كملوكهم يعيش في عدة قصور فارهة شاهقة تتخللها البساتين والينابيع، ويعيش فيها من الخدم والحشم والحرس ما يتناسب مع مقام أكبر ملك في العالم عمر الفاروق!

عمر لم يُعرف عنه في الجاهلية غير القوة والبطش، وكان بضعة أصفار على الشمال، ثم صار أمّة بمفرده وأسطورة أذهلت العالم حتى اليوم، وذالك عندما شرح صدره للإسلام ورباه رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية نبوية محمدية، فأصبح عمر رجلا آخر، وزعيما وقائدا عظيما...
وصار قمة العدل والشورى والرحمة والعزة والهيبة والورع والوقار..

أرسل كسرى سبعة من حاشيته المقربين الى زيارة عاصمة الإسلام وملكهم عمر بن الخطاب حيث كان يظن أنها مملكة .. وأمرهم أن ينظروا كيف يعيش وكيف يتعامل مع شعبه فدخلوا المدينة بالفعل وأرشدوهم إلى المسجد فسألوا أين قصر أمير المؤمنين فضحك الصحابة من سؤالهم هذا وأخذهم أحد الصحابة وقال لهم أترون؟ إن بيت الطين هذا هو بيت أمير المؤمنين عمر ، وعليه شعر ماعز وضعه لكي لا يسقط المطر فينهدم البيت على رأس عمر وأهل عمر!! … نظر الرسل بعضهم الى بعض وقد ظنوا أن هذا البيت ربما كان أشبه بالمنتجع الصيفي أو الشتوي لأحد فقراء المدينة المنورة!! أو مكانا ليقضي فيه بعض الوقت هو وأهله فقالوا:
بل نريد قصر الإمارة!! فقال لهم الصحابي الذي رافقهم:
هاذا هو قصر الحكم والإمارة!! ..

فطرقوا الباب غير مصدقين، ففتح لهم عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألوه عن أبيه..
فقال ربما كان في نخل المدينة .. فخرج معهم عبد الله حتى وصلوا إلى هناك فقال لهم:
أترون هذا الرجل النائم هناك؟ إنه عمر بن الخطاب!! وقد كان المشهد الذى رآه وفد كسرى مشهد رجل نائم على ظهره يغط في نوم عميق على الأرض، يده اليسرى تحت رأسه وسادة، ويده اليمنى على عينيه تحميه من حرارة الشمس ..، كان في نوم عميق، نوم رجل آمن أعياه التعب كل يوم وليل لقضاء حاجات الناس
، فكان يطوف على بيوت الأنصار والمهاجرين وممن قطنوا المدينة واستقراوا فيها مستشعرا عظم المسؤولية والأمانة التي يحملها..

نظر وفد كسرى بعضهم إلى بعض!! يتساءلون بينهم، ما هذا الذي نراه؟ أين الحرس الكسروي والقيصري، أين كسرى وقيصر وملوك الأرض ليروا ملك العرب نائما وحده من غير حرس ولا حشم ولا عبيد وجنوده على الثغور يدكون معاقل فارس والروم؟

فقالوا قولتهم الخالدة:
حكمت فعدلت فأمنت فنمت

00000


و راع صاحب كسرى أن رأى عمرَ = بين الرعية عطلا و هو راعيها
و عهده بملوك الفرس أن لها = سورا من الجند و الأحراس يحميها
رآه مستغرقا في نومه فرأى = فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا = ببردة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره = من الأكاسر والدنيا بأيديها
و قال قولة حق أصبحت مثلا = و أصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم = فنمت نوم قرير العين هانيها


يتبع

رضي الله عنك يااعمر
عاشقة الصداقة
الحلقة الرابعة

عمر في بيت المقدس يقود الراحلة وغلامه راكب عليها وتخر له القساوسة ساجدين



تلقى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضى الله عنه خطابا من أبي عبيدة عامر بن الجراح قائد الجيش قال فيها:
"يا أمير المؤمنين إن أهل بيت المقدس قد طلبوا الصلح مشترطين أن يتولى خليفة المسلمين ذلك بنفسه وإنا يا أمير المؤمنين حاصرناهم بجيشنا فأطل علينا من فوق أسوار المدينة المقدسة البطريرك صفروينوس وقال إنا نريد أن نسلم لكم المدينة لكن بشرط أن يكون التسليم لأميركم فتقدمت منه وقلت أنا أمير الجيش فقال إنما نريد أمير المؤمنين"..
، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة المنورة قاصداً بيت المقدس ورافق عمر غلامه وليس عنده إلا بعير واحد، ولم يخرج معه حرس جمهوري أو ملكي ، ولم يرافقه حاشيته وخدمه وعبيده، وإنما غلامه وراحلته ولما صار خارج المدينة المنورة قال عمر لغلامه:
"نحن إثنان وليس عندنا إلا راحلة واحدة فإن ركبتُ أنا ومشيتَ أنت ظلمتك وإن ركبتَ أنت ومشيتُ أنا ظلمتني وإن ركبنا نحن الإثنين قصمنا ظهر البعير، فلنقسم الطريق مثالثة (يعني ثلاث مراحل) أنا أركب مرحلة وأنزل وتركب أنت مرحلة و نمشي أنا وأنت ونترك البعير يستريح مرحلة"، فكان عمر يركب فيقرأ سورة ياسين ثم ينزل ثم يركب الغلام فيقرأ سورة ياسين وينزل ويمشي عمر والغلام فيقرآن ياسين والدابة مستريحة، وهكذا استمر يُقسم الطريق مثالثة من المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية حتى وصل جبلاً مشرفاً على القدس فكبر عمر وهو على ظهر الراحلة "وعند وصول عمر تخوم القدس قال عمر للغلام: تعال اركب الآن دورك" فقال الغلام: "يا أمير المؤمنين لا تنزل انظر إلى المدينة انظر إلى الخيول المسرجة وإلى العربات المذهبة فإذا دخلنا المدينة أنا أركب وأمير المؤمنين يمشي ويقود بي الراحلة سخروا منا وقد يتراجعوا عن استسلامهم وتسليم المدينة المقدسة" ... فقال أمير المؤمنين عمر:
" دورك يا غلام لو كان الدور دوري ما نزلت أما والدور لك لأنزلن ولتركبن"، ونزل و ركب الغلام وأخذ عمر بمقود البعير يجره ولما وصل عمر سور مدينة القدس وجد قساوسة نصارى المدينة في استقباله خارج باب سور المدينة ويسمى باب دمشق وعلى رأسهم البطريرك صفرو ينوس الذي خرج معه النصارى لاستقباله في أبهة عظيمة لتسليم مفاتيح بيت المقدس، وخرجت النساء على أسقف المنازل وعلى أسطحة البيوت، وخرج الأطفال في الطرق والسكك.

وأما جيوش المسلمين هناك وقوادها الأربعة فخرجوا في عرض عسكري رائع ما سمعت الدنيا بمثله.
فما هو موكبه الذي أتى به ليأخذ مفاتيح بيت المقدس فيه؟
لا موكب ولا حرس جمهوري، ولا حشم ولا حرس ثوري! ظن الناس أنه سوف يأتي في كبار الصحابة، وفي كبار الأنصار والمهاجرين من الصالحين والعلماء، ومن النجوم والنبلاء، لكنه أتى بجمل واحد ومعه خادمه، فمرة عمر يقود الجمل والخادم يركب، ومرة عمر يركب والخادم يقود!

وعندما أشرف على بيت المقدس قال الأمراء المسلمون: من هذا؟
لعله بشير يبشر بقدوم أمير المؤمنين.
فاقتربوا منه فإذا هو عمر بن الخطاب ! وقد أتت نوبته، وإذا هو يقود البعير وخادمه على البعير.
فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين الناس في انتظارك والدنيا خرجت لاستقبالك، والناس يسمعون بك وأتيت في هذا الزي؟

فقال عمر قولته الشهيرة التي حفظها الدهر ووعتها الدنيا وهو يلوح بدرته صوب عمرو بن العاص: .




ولما اقترب النصارى من عمر، ورأوا عمر يقود الراحلة وغلامه يركب زادت مهابة عمر وزاد إجلاله، فخروا لعمر ساجدين فأشاح عليهم الغلام بالعصا وقال ويحكم ارفعوا رؤوسكم فإنه لايجوز السجود إلا لله وأقبل البطريرك صفرو ينوس على عمر يبكي ويقول أيقنتُ أن دولتكم على مرِّ الدهر والزمان باقية لا تزول..

يا من يرى عمراً تكسوه بردته = والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً = من خوفه وملوك الروم تخشاه
عاشقة الصداقة
الحلقة الخامسة
الفاروق يرغب في ضيافة أبي عبيدة وأبوعبيدة لا يريد أن يُضَيِّفَ الفاروق!!



أمين هذه الأمة أبوعبيدة عامر بن الجراح كان في أرض الشام يقود الجيوش، ومعه خالد بن الوليد سيف الله المسلول، وأرض الشام كانت أرض خير وبركة وعطاء، وعندما زار الفاروق أرض الشام لم يرغب أبو عبيدة أن يستضيف الفاروق إلى قصره ومنزله العامر، وقد أتى عمر من المدينة وله حق الضيافة وواجب الكرم، لاسيما أن الفاروق سأل عن أبي عبيدة أول ما نزل قائلا: أين أخي أبو عبيدة؟!! فكان الفاروق يحبه حبا جما، وما فرغ من كلامه حتى أقبل أبوعبيدة يعانق الفاروق وقد تغير بهما العمر، ورأى عمر من رداء أبي عبيدة ومن هيئته ما يثير التساؤل!!..
ولما سكت أبو عبيدة عن استضافة الفاروق إلى داره!!، لم يسكت الفاروق فهو يحب أن يزور بيوت ولاته كي يرى حالهم عن قرب ثم يحكم لهم أو عليهم!! فكانت وجهته الأولى نحو دار أبي عبيدة ليرى قصره المشيد، ويرى كيف يبعثر الأموال ويأكل أطايب الطعام ويكتسي بفاخر اللباس بعد أن صار الوالي على ديار الشام، فقال له الفاروق:
اذهب بنا إلى منزلك!
قال أبو عبيدة!:
وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ؟!
ولماذا يعصر عمر عينيه عليك يا أبا عبيدة؟!
أين الكرم يا أباعبيدة؟! هل هو البخل؟ أم مخافة المحاسبة ومهابة درة الفاروق؟
رضخ أبو عبيدة لاستضافة الفاروق!!
فلما دخل الفاروق منزل أبي عبيدة المتواضع لم ير شيئاً ذا قيمة!، ثم قال لأبي عبيدة!:
أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً وأنت أمير، أعندك طعام؟!

فقام أبو عبيدة إلى جونة، فأخذ منها كسيرات!!

هؤلاء الصحابة الرجال الذين قبلوا الأمور العظام، وآمنوا بالرسول وصدقوه، وسمعوا له وأطاعوه، كيف يتهمهم السبأيون بأنهم ارتدوا على أعقباهم من أجل كرسي دنيوي مآله إلى زوال؟!
كيف يطمعون في الكرسي والمنصب والجاه ثم لا تجد في بيت أبي عبيدة ومن قبله أبي بكر وعمر إلا الفقر والجوع؟!!

أهذا هو الطمع الذي أدى بهم إلى الردة والإنتكاس؟ كيف نصرهم الله لنشر دينه وإقامة حكم الله على الأرض على منهاج النبوة؟

لقد ولى الفاروق أخاه وصهره علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المدينة وعلى المسلمين بعده، فلماذا لم يقم الكرار الشجاع بانقلاب عسكري وينتصر للوصية والإمامة المزعومة وقد صار الأمر إليه؟
ولماذا لم يرسل علي بن أبي طالب من الهاشميين بضعة فرسان للحاق بعمر وغلامه خارج المدينة لقتلهما وإعلان حكومة الوصية المزعومة؟!!

سحقا لعقول لا تفكر ولا تبحث عن الحق ثم تتبعه!!
قال الفاروق لأبي عبيدة!:
أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً وأنت أمير! أعندك طعام؟!
فقام أبو عبيدة إلى جونة، فأخذ منها كسيرات!!
نظر عمر إلى أبي عبيدة نظرة إكبار وإجلال وحزن على حال أبي عبيدة، ثم بكى عمر، فقال له أبو عبيدة بصوت أجش: قد قلت لك يا أمير المؤمنين إنك ستعصر عينيك عليّ!، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل!! وكأن أبا عبيدة يقول:
(لأجل ما رأيتَ يا أمير المؤمنين لم أرغب في استضافتك لأنه ليس عندي شيء!!)،
قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة، فبكى عمر وبكى معه أبو عبيدة رضي الله عنهما، وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال:
وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً!!

هذه هي عظمة الفاروق، فقد كان عظيماً بإيمانه، عظيما بإسلامه، عظيماً بعلمه، عظيماً بفكره، عظيماً ببيانه، عظيماً بخلقه ، عظيما في قوته، عظيما في رحمته، فقد جمع الفاروق العظمة من أطرافها وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن بعده صاحبه خليفة رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه..
.




إن جاع في شدة قومٌ شركتهم = في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة و الدنيا بقبضته = في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص و سيرته = أو من يحاول للفاروق تشبيها


يتبع
عاشقة الصداقة
الحلقة السادسة
مشفى طواريء متنقل للولادة بقيادة الفاروق


وزع الفاروق مهام الحكم الإسلامي على أهل الإختصاص، ومن هذه المهام مهمة العسس في الليل لتفقد أحوال الرعية، لكن الفاروق كان يتفقد سير العمليات بنفسه ليطمئن على أحوال المسلمين، وفي ليلة من الليالي ، بينما عمر يعس المدينة إذ مر برحبة من رحابها، فإذا هو ببيت من شعر لم يكن بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة ينبعث من داخل الخيمة ، ورأى رجلا قاعدا ، فاقترب منه وسلم عليه ، وسأله : من الرجل؟
قال : رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله،
فقال عمر رضي الله عنه :
ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟
فقال الإعرابي للفاروق:
أمر ليس من شأنك، انطلق يا هذا رحمك الله لحاجتك،

فقال عمر رضي الله عنه : عليّ ذاك ما هو؟
فقال الإعرابي: امرأة تمخض، (في حالة مخاض تريد الولادة)، ف
قال عمر:
هل عندها أحد؟ قال: لا، فتركه عمر حالا، ولم يغضب لقول الأعرابي الذي لم يعرف أن السائل هو عمر، فرجع عمر إلى منزله ونادى
زوجه (زوجته) أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب (ابنة فاطمة الزهراء) وقال:


يا أم كلثوم، هل لك في أجر ساقه الله إليك؟
قالت: وما هو؟
قال : امرأة غريبة تمخض ، وليس عندها أحد،
فقالت : نعم ، إن شئت يا أمير المؤمنين،
فقال: خذي معك ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن، وجيئيني ببرمة (أي:قدر) وشحم وحبوب .
فجاءت به فقال لها : انطلقي، وحمل الفاروق البرمة ومشت معه حتى انتهى إلى البيت فقال لها ادخلي إلى المرأة، فدخلت أم كلثوم لتوليد المرأة ومساعدتها وتطبيبها وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له:

أوقد لي نارا ففعل، فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها وولدت المرأة فقالت أم كلثوم وهي فرحة مسرورة:
يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الأعرابي قول أم كلثوم يا أمير المؤمنين كأنه هابه، فجعل يتنحى عنه فقال له الفاروق:
مكانك كما أنت، فحمل البرمة فوضعها على الباب ثم قال لزوجه أم كلثوم:
أشبعيها،
ففعلت أم كلثوم، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب، فقام عمر رضي الله عنه فأخذها فوضعها بين يدي الأعرابي، فوثب إلى الفاروق فجلس بين يديه خجِلا وجعل يعتذر إليه، فقال له الفاروق:

لا عليك!! كل ويحك فإنك قد سهرت من الليل، ففعل وهو لم يصدق أن الفاروق هو الذي أمامه، وأن المرأة التي ولـَّدَتْ زوجتَه هي أم كلثوم بنت الزهراء رضي الله عنهم، فأكل الرجل حتى شبع، ثم قال الفاروق لامرأته أم كلثوم: اخرجي، وقال للرجل: إذا كان غدا فأتنا نأمر لك بما يصلحك، فلما أصبح الإعرابي ذهب إلى أمير المؤمنين، ففرض لابنه معاشا (أسوة بمن يولد من أطفال المسلمين)، وأعطاه حاجته وحاجة امرأته التي ولدت الغلام..

ع
دل في المعاملة، ورحمة بالرعية، وشعور بالمسؤولية، وحِلمٌ يمنع الفاروق من الغضب لنفسه، هكذا كان وآل بيته، وهكذا كانت زوجه أم كلثوم التي هي سليلة بيت النبوة، وتربية أمها الزهراء وأبيها الكرار..

رضي الله عنهم أجمعين