أوَّل روَّاد أهْل النار هم أهلُ الرِّياء؛ ..فإليكم الأسباب والعلاج

ملتقى الإيمان

أوَّل روَّاد أهْل النار هم أهلُ الرِّياء؛ جراءَ الأعمال التي قاموا بها وعملوها، لَم يبتغوا بها وجهَ الله -تبارك وتعالى - وإنَّما مِن باب ليقال عنهم على ألْسِنة الناس، ويلهجون بذِكْرهم، فكان الجزاءُ مِن جنس العمل (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَاحيث جاء مِن حديثِ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ أوَّل الناس يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلت؛ لأنْ يُقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار، ورجل تعلَّم العِلم وعَلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلمتَ العلم؛ ليُقال: عالِم، وقرأتَ القرآن؛ ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلْقِي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه مِن أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمه عليه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنَّك فعلتَ؛ ليقال: هو جوَاد، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار))



أسباب الرياء:

الرِّياء تتعدَّد بواعثُه، وتختلِف أسبابُه مِن إنسانٍ لآخر على حسب حاجةِ الإنسان ومراده مِن غير الله -تبارك وتعالى - وهي كثيرةٌ، وإليك أنواعًا، منها:

النوع الأول: الجهل:

فالجهلُ بحقيقةِ الرياء ومآلاته، وبالإخْلاص ومآلاته، سببٌ للتلبس بالرِّياء؛ إذ هو سببٌ رئيس لكلِّ مرَض، وداء عُضال للبشرية جمعاء في جميع مناحِي الحياة، وسبب للشقاء، وما أُتيت الأمَّة وتجرَّعت الذلَّ والهوان إلاَّ بسبب الجهْل، سواء بمصالِحها الدنيويَّة أو الأُخروية.
قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - بعْد أن ذكَر أنواعًا مِن الأمراض المعنويَّة كالرِّياء وغيره؛ إذ إنَّها آفاتٌ إذا دخَلَتْ على القلوب، ومِن كبائر الذنوب: "وهذه الآفات، إنما تنشأ مِن الجهْل بعبودية القلْب، وترْك القيام بها، فوظيفة "إياك نعبد" على القلْب قبل الجوارح، فإذا جهِلها وترَك القيام بها، امتلأ بأضدادها ولا بدَّ، وبحسب قيامه بها يتخلَّص مِن أضدادها".
قال أبو الحسن البوسنجيُّ: "الناس على ثلاثةِ منازل: الأولياء، وهم الذين باطِنُهم أفضلُ من ظاهرهم، والعلماء وهم الذين سِرُّهم وعلانيتُهم سواء، والجُهَّال وهم الذين علانيتُهم تخالِف أسرارَهم، ولا يُنصفون من أنفسهم، ويَطلبون الإنصافَ مِن غيرهم".


النوع الثاني: حب الجاه:

حب الجاه: وهو ارْتفاع المنزِلة في قلوب الناس، ومَن غلَب على قلْبه حبُّ الجاه، صار مقصورَ الهمِّ على مراعاة الناس، مشغوفًا بالتردُّد عليهم والمراءاة لهم، وهذا بذْرُ النِّفاق وأصل الفساد؛ لأنَّ مَن طلب المنزِلة في قلوب العباد اضطر أن ينافقَهم؛ حتى يستميلَ قلوبهم.
وليعلم العبدُ أنَّ الحرْص على طلب الجاه، إما أن يكونَ من قِبل الدنيا أو من قِبل الدين؛ فإنْ كان من قِبل الدنيا كطلب الإمارة والرِّئاسة ونحوها، فإنَّه يمنع خيرَ الآخرة، قال - سبحانه -: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقلَّ أن يُوفَّق مَن طلب ذلك، بل يوكل إلى نفْسه؛ ولذا ترى كثيرًا مِن هؤلاء يحبُّون أن يُحمدوا على أفعالِهم، ويُثنَى عليهم بها، وقد يطلبون مِن الناس ذلك، وقد يظهرون بعضَ الأمور الحسنة؛ ليُمدَحوا عليها، وهو تزويرٌ وتمويه.
فالمسلِم لا يغرُّه تغلُّبُ المرائين في البلاد، وتسلُّطهم على العباد، فإنَّ ذلَّ المعصية في قلوبهم ورقابهم، أبَى الله إلا أن يذلَّ مَن عصاه.
وإمَّا إنْ كان طلب الجاه مِن قِبل الدين، كالعمل والعِلم والزهد، فالأمر خطيرٌ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن تعلَّم عِلمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمه إلا ليصيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنة - يعني: رِيحها - يومَ القيامة)) .
ولهذا كان أوَّلُ الناس عذابًا في الآخِرة عالِمًا، لَم ينفعْه علمه، وهو مِن أشدِّ الناس حسرةً وندامة يوم القيامة؛ كما جاء في حديث الثلاثة الذين هم أوَّل مَن تُسعَّر بهم النار، وقد سبق ذِكْره.


النوع الثالث: الطمع مما في أيدي الناس:

ما مِن شيءٍ أفسد لدِين المرء من الطَّمَع في شهوات الدنيا، مِن مال، أو منصب أو جاه.
ومَن كان ذا طمع مسيطر على قلْبه، فإنَّ الذل قرينه؛ لأنَّه يبذل عِرْضه في سبيل تحقيق ما هوتْه نفسه، وطمع فيه قلْبُه، ولو لَم يكن في الطَّمع إلا تضييع العُمر الشريف، الذي يمكن أن يَشتريَ به صاحبه الدرجاتِ العُلى والنعيمَ المقيم، في طلَب رِزق قد تكفَّل الله به، لكفَى بذلك زَجْرًا، فكيف وفي الطَّمع التَّعبُ الدائم، وتحقير النفس وإذلالها، ونقصُ الثِّقة بالله - عز وجل - مع شعور صاحِبه بفقرٍ دائم.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن غزَا لا يَبغي إلا عقالاً فلَه ما نَوى)).
فهذا إشارةٌ إلى الطمَع، وأنَّ ما دعاه إلى الغَزو إلا طمعه في الدنيا لا يبغي غير ذلك، وقد تعوَّذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن الطمع، ومِن النفس التي لا تشبع، كما جاء في حديث زيد بن أرْقم: ((اللهمَّ إني أعوذ بك مِن علم لا ينفع، ومِن قلْب لا يخشع، ومِن نفْس لا تشْبَع، ومِن دعوة لا يُستجاب لها))


النوع الرابع: الفرار مِن ألَم الذم:

يكون الفِرار مِن ذمِّ البخل، أو ذمِّ الجبن وعدم الشجاعة، أو ذمِّ الجهْل وغير ذلك.
فالرَّجل الذي يُقاتل حَميةً ولا يحب أن يُقهر، والرجل الذي يُفْتي بغير عِلم في مسألة أو أكثر، إنَّما باعث ذلك الفرار من الذم، فيكون قد أرْضَى الناس بسَخَطِ الله، وعرَّض نفسه لسخط الله تعالى؛ ولذلك يقول - عليه الصلاة والسلام - كما جاء من حديث عائشة - رضي الله عنها-: ((مَن أرْضى الله بسخطِ الناس كفاه الله، ومِن أسخط الله برِضا الناس وكَلَه الله إلى الناس)).
وقد يَقدِر الإنسان على الصبر عن لذَّة الحمْد، ولا يقدر على الصبر على ألَم الذَّم؛ ولذلك قد يترك السؤالَ عن عِلم هو محتاجٌ إليه؛ خِيفةً من أن يُذمَّ بالجهل، ويُفتي بغير علم، ويدَّعي العلم بالحديث وهو به جاهِل؛ كل ذلك حذرًا من الذم.
النوع الخامس: لذَّة الحمد والثناء:

إنَّ لذَّة الحمْد والثناء هي فرارٌ مِن ألَم الذم والخوف منه، وهو شعورٌ بالكمال وعدم النقص، مع أنَّ المخلِص لا يعمل إلا لله - تعالى -، ولا يلتفت إلى مدْح الناس أو ذمِّهم له؛ إذ لا كمالَ بمدحهم ولا نقْص بذمهم، كما قال شاعِر بني تميم: إنَّ مدحي زَيْن، وإن ذمِّي شَيْن، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذبْتَ، ذاك اللهُ))، الذي لا إله إلا هو؛ إذ لا زَيْنَ إلاَّ في مدحه، ولا شَيْن إلا في ذمِّه، وأيُّ خيْر في مدح الناس له، وهو ممقوتٌ ومذموم عندَ الله، ومن أهل النار؟! وأي شرٍّ في ذمِّ الناس له وهو عندَ الله ممدوح ومحبوب، ومن المقرَّبين؟! ثم إذا ترتَّب على المدْح والثناء القيامُ بالعمل، ويتوقَّف بعدمه، فهذا خطرٌ مستطير، ومزلَق عظيم على العبد، فليحذر هذا.

علاج الرياء:
اعلمْ أنَّ علاج القلْب مِن جميع أمراضه قد تضمَّنه القرآن الكريم، وجاءتْ به السُّنة المطهَّرة، فقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا).

فالرِّياء مرَض يَعرِض على القلوب، فتُصاب بالزَّيغ والهلاك، فلا بدَّ مِن وصف بعض الأدوية، وتناول بعضِ الجُرع الطِّبية التي وُصِفت في الوحيَيْن، أو مستقاة منهما؛ حتى يرتفعَ ويزول هذا المرض العُضال، فإليك هذه الوصفة الطبية النافِعة - بإذن الله - تعالى -:


الأولى: الاتِّصال بالله - جل جلاله -:

الاتِّصال بالخالِق يقطع كلَّ الاتصالات بالخلْق، والاستغناء عن العباد؛ (فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، ومَن كفاه الخالق فلا يحتاج إلى غيرِه، ولا يكون هذا إلا إذا تَعلَّق القلْب بالله - جل جلاله - وأيقن أنَّه هو الغني والناس كلهم مفتقِرون إلى الله؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
يسْتشِفّ سيِّد قطب - رحمه الله تعالى - أنَّ عِلاج القلْب من مرض الرِّياء، هو أن يكون متصلاً بالله - جل وعلا - وذلك عند قوله - تعالى -: ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) إذ يقول: "... وذلك هو التوكيدُ الأخير، التوكيد على أنَّ هذا كله متوقِّف على صِلة القلب بالله، ونوْع هذه الصِّلة، والشُّعور بخشيته خشية تدفع إلى كلِّ صلاح، وتنهى عن كلِّ انحراف، الشعور الذي يُزيح الحواجز، ويَرْفع الأستار، ويقِف القلب عاريًا أمامَ الواحد القهَّار، والذي يُخلص العبادة، ويُخلص العملَ من شوائبِ الرِّياء والشِّرك في كلِّ صورة من صُوَره، فالذي يخشى ربَّه حقًّا لا يملك أن يخطرَ في قلبه ظلٌّ لغيره من خلْقه، وهو يعلم أنَّ الله يردُّ كلَّ عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه، فهو أغْنى الشركاء عن الشِّرك، فإما عمل خالص له، وإلا لَم يَقْبله".
قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "فدواء الرِّياء بـ(إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، ودواء الكبر بـ(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وكثيرًا ما كنت أسْمَع شيخَ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله رُوحه - يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرِّياء، و(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تدفع الكِبرياء".




الثانية: المجاهدة الدائمة للنفس:

إنَّ الله - سبحانه - امتحن العبدَ بنفسه وهواه، وأوْجب عليه جهادَهما في الله، فهو في كلِّ وقت في مجاهدةِ نفسه، حتى يأتيَ بالشُّكر المأمور به، ويصبرَ عن الهوى المنهيِّ عن طاعته، فلا ينفكُّ العبد عنهما غنيًّا كان أو فقيرًا، معافًى أو مبتلًى.
قال الحارث المحاسبي: "مَن اجتهد في باطنه، ورَّثه الله حسنَ معاملة ظاهره، ومَن حسَّن معاملته في ظاهره مع جهْد باطنه، ورَّثه الله - تعالى - الهدايةَ إليه؛ لقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).




الثالثة: الحِرْص على كِتْمان العمل وإخفائه:

جاء في الحديث عن معاذ - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ أدْنى الرِّياء شرْك، وأحبَّ العبيد إلى الله الأتْقياءُ الأسخياء الأخفياء - أي: المبالِغون في ستْر عباداتهم، وتنزيهها عن شوائبِ الأغراض الفانية، والأخلاق الدنيئة - الذين إذا غابوا لم يُفْتَقدوا، وإذا شَهِدوا - أي: حضروا - لم يُعرَفوا، أولئك أئمَّة الهُدَى، ومصابيح الدُّجَى))
ورُوي أنَّ لقمان قال لابنه: الرِّياء أنْ تطلَب ثوابَ عملك في دار الدنيا، وإنَّما عملُ القوم للآخِرة، قيل له: فما دواء الرياء؟ قال: كتْمان العَمل، قيل له: فكيف يُكتم العمل؟ قال: ما كُلِّفْت إظهارَه من العمل، فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تُكلَّف إظهارَه أُحِبُّ ألا تُطلِع عليه إلا الله.
قال الفُضَيل بن عِياض: "خيرُ العمل أخْفاه، أمْنَعُه من الشيطان، وأبعدُه من الرِّياء".
وسُئل بعضُ الحُكماء - رحمهم الله -: مَن المخلص؟ فقال: "المخلِص الذي يَكْتُم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه".




الرابعة: التفكُّر في شناعة الرياء وقبحه:

وذلك مِن خلال معرفة أحْكامه؛ إذ حُكِم عليه بالشِّرك، وأنَّه مِن أشدِّ المحرَّمات وكبائر الذنوب على الإطلاق، بالإضافةِ على أنه نوعٌ من أنواع النِّفاق.

الخامسة: النظر في عواقبه وجزائه الدنيوية والأُخروية:

أمَّا في الدنيا فإنَّ الله يَفْضَح صاحبه، ويكشِف سوءَ سريرته بيْن الخلائق في الدنيا قبلَ الآخرة، كما جاء مِن حديث جُندب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سَمَّع سمَّع الله به، ومَن يُرائي يُرائي الله به))، وجاء من حديث بن عبَّاس بلفظ: ((مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن راءَى راءَى الله به)).
قال الخطابي: "معناه: من عمِل عملاً على غيرِ إخلاص، وإنَّما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جُوزي على ذلك؛ بأن يشهره الله ويَفْضحه، ويظهر ما كان يُبطنه، وقيل: مَن قصد بعمله الجاهَ والمنزلة عندَ الناس ولم يرد به وجهَ الله، فإنَّ الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيلَ المنزلة عندَهم، ولا ثوابَ له في الآخرة ".
إنَّ من أعظمِ الحسرات على العبد يومَ القيامة أن يرى سعيَه ضائعًا؛ بسبب فقْده الإخلاص، وقد سعِد أهلُ الإخلاص.


السادسة: الابتعاد عن مواطِنه ومواقِعه:
لقد كان السلف - رحمهم الله - تعالى - يبتعدون عن مواطِنِ الشُّهرة، والتي تكون مدعاةً للرِّياء والسُّمعة، من الرِّياسة والقضاء، ونحو ذالك.

قال الزهريُّ - رحمه الله -: "ما رأينا الزُّهْد في شيء أقل منه في الرِّياسة، نرى الرجل يزهَد في المطْعم والمشْرب والمال، فإذا نُوزِع الرياسة حامَى عليها وعادى".

قيل لابن المبارك: إن إسماعيل بن علية، قد ولي القضاء، فكتب إليه:
يَا جَاعِلَ الْعِلْمِ لَهُ بَازِيَا *** يَصْطَادُ أَمْوَالَ الْمَسَاكِينِ
احْتَلْتَ لِلدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا *** بِحِيلَةٍ تَذْهَبُ بِالدِّينِ
فَصِرْتَ مَجْنُونًا بِهَا بَعْدَمَا *** كُنْتَ دَوَاءً لِلْمَجَانِينِ
أَيْنَ رِوَايَاتُكَ فِي سَرْدِهَا *** عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَابْنِ سِيرِينِ؟
أَيْنَ رِوَايَاتُكَ فِيمَا مَضَى *** فِي تَرْكِ أَبْوَابِ السَّلاَطِينِ
إِنْ قُلْتَ: أُكْرِهْتَ، فَمَا ذَا كَذَا *** زَلَّ حِمَارُ الْعِلْمِ فِي الطِّينِ

إيَّاك إيَّاك:
كتب سفيانُ الثوريُّ إلى عبَّاد بن عبَّاد: "أما بعد: فإنَّك في زمان كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذون أن يدركوه، ولهم من العِلم ما ليس لنا، ولهم مِن القِدم ما ليس لنا، فكيف بنا حين أدركْناه على قلَّة عِلم، وقلَّة صبر، وقلَّة أعوان على الخير، وفسادٍ من الناس، وكدَر مِن الدنيا؟!
فعليكَ بالأمْرِ الأول والتمسُّك به، وعليك بالخُمول، فإنَّ هذا زمن خمول، وعليك بالعُزْلة وقلَّة مخالَطة الناس، فقد كان الناس إذا الْتقَوا ينتفع بعضُهم ببعض، فأمَّا اليوم فقد ذهَب ذاك، والنجاةُ في ترْكهم - فيما نرى.
وإيَّاكَ والأمراء أن تدنوَ منهم وتخالطَهم في شيءٍ مِن الأشياء، وإيَّاك أن تُخدعَ فيُقال لك: تشفع وتدرأ عن مظلوم، أو ترد مَظْلمة، فإنَّ ذلك خديعةُ إبليس، وإنَّما اتخذها فجَّار القُرَّاء سُلَّمًا، وكان يُقال: اتَّقوا فِتنةَ العابد الجاهل، والعالِم الفاجِر، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتون.
وما لَقِيتَ مِن المسألة والفُتيا، فاغتنمْ ذلك، ولا تُنافسْهم فيه، وإيَّاكَ أن تكون كمَن يحبُّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قولُه، أو يُسمَع من قوله، فإذا تُرِك ذاك منه عُرِف فيه، وإياك وحبَّ الرِّياسة، فإنَّ الرجل تكون الرياسة أحبَّ إليه مِن الذهب والفِضَّة، وهو بابٌ غامِض لا يُبصره إلا البصيرُ من العلماء السماسرة، فتفقَّد نفْسك، واعمل بنيَّة، واعلم أنَّه قد دَنَا مِن الناس أمرٌ يشتهي الرجلُ أن يموت، وسلام".

قال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق الله من أراد أن يشتهر".




السابعة: استحضار مراقبةِ الله - تعالى - للعَبْد:

يقول الله -تبارك وتعالى -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، وقال: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)، وقال: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
والمراقبة هي كما عرَّفها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ جبرائيل، عندما سُئِل عن الإحسان، فقال: ((أن تعبُدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُن تراه، فإنَّه يراك))، فمَن استشعر رِقابةَ الله له في أعماله يَهون في نظَرِه كلُّ أحد، ويوجِب له ذلك التعظيمَ والمهابة لله - تعالى -.




الثامنة: الاستعانة بالله - تعالى -:

الاستعانة بالله - جلَّ جلاله - على التخلُّص من الرِّياء شيءٌ حتْمي، ولا بدَّ منه، وذلك بالتألُّه والتعبُّد لله ربِّ العالمين ودعائه، وهُمَا أقوى وسيلةٍ للتخلُّص من الرياء.
عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ((اللهمَّ إني أعوذ بكَّ من شرِّ ما عملت، وشرِّ ما لم أعمل)).
ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - تكلَّم عن كيفية تخلُّص القلْب من الأمور السلبيَّة والمضادة للقِيام بعبوديته لله ربِّ العالمين، ووظيفة (إيَّاك نعبد) مِن هذه الأمراض حيث قال: "وكثيرًا ما كنتُ أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله رُوحه - يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرِّياء، و(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تدفع الكِبرياء".

حقًّا إنَّ جِماع ما سبَق مِن تناوله مِن العلاجات يَكْمُن في وظيفة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)على القلْب قبل الجوارح، فهي جامعةٌ للأدوية والعقاقير الطبيَّة، تُغْني متناوِلَها عن الأعشاب المصطَنعة المزيَّفة، ولها أهميةٌ بالِغة، وتأثير عظيم، فإذا جهِلها العبدُ وترَك القيامَ بها، امتلأ قلبُه بأضدادها، وما يكون سببًا لهلاكِه، وعلى قدْر القِيام بها يكون الخلاصُ من الرِّياء والالْتفات إلى غيرِ الله - جل وعلا -.


المصدر:

سيئة القلوب: الرياء الكـاتب : فضل محمد البرح موقع المختار الإسلامي

اخترت الأسباب والعلاج
11
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

شرشف صلاة
شرشف صلاة
موضوع ممتاز ومهم وخطير
جزاك الله خير
رحمتك إله الكون
موضوع ممتاز ومهم وخطير جزاك الله خير
موضوع ممتاز ومهم وخطير جزاك الله خير
وإياك وجعلك من عباده المخلصين..
متجر ضي القمر
متجر ضي القمر
جزاك الله خير
رحمتك إله الكون
جزاك الله خير
جزاك الله خير
وإياك وجعلك من عباده المخلصين..
حياتي الامل
حياتي الامل
جزاك الله خير