milagro

milagro @milagro

محررة فضية

قصص الانبياء

حلقات تحفيظ القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم



إبراهيم (عليه السلام)

كان رجلٌ اسمُهُ آزر، منجماً لملك جبَّارٍ يُسمَّى (نمرود) وكان (نمرود) كافراً باللهِ تعالى.

فقال آزر للملك يوماً: إني أرى في حسابٍ للنجوم: أنّهُ سينشأُ رجلٌ ينسخُ دينَكَ أيُّها الملكُ، ويدعو إلى دينٍ جديد‍

فسأل الملك آزر: وهل وُلِدَ هذا المولود؟

قالَ آزر: لا..

قالَ الملك: ينبغي أن يفرّق بين الرجالِ والنساءِ، حتى لا يحصلَ تزاوج، ليكونَ بينهما نسلٌ.

ثمّ أمَرَ الملكُ بمفارقة الرجالِ للنساء، ولكن شاء اللهُ أن تحمل أمُّ (إبراهيم) بهذا المولود. فحملت.. وأخفَتْ حملها عن الناس، حتى عن أبيه. فلمّا أخذ أمّ (إبراهيم) الطلق، ذهبتْ إلى مكانٍ مستترٍ ووضعتْ بإبراهيم، خوفاً على ولدها، ثم قمطته، ورجعت إلى دارها. وكانت الأمّ تختلف إلى ولدها وكان ينمو إبراهيم نمواً سريعاً حتى بلغَ مبلغَ الفتيان.

واشتدّ حكمُ نمرود على الأولاد، فكان يقتل كلَّ ولد ذَكر. ولكن شاءَ الله أن يبقى إبراهيم في أمنٍ من الملك السفَّاك.

* * *

خرج ذات يوم إبراهيمُ من مخبئهِ، وعمرُه إذ ذاك ثلاثَ عشرة سنةً. فنظر إلى آثار قدرة الله تعالى في السماوات والأرض، وشاء الله أن يلفت نظر إبراهيم إلى آيات الكون

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماواتِ والأرض وليكونَ من الموقنين) وهكذا، كان ينظرُ إلى آياتِ الله تعالى، حتى قربت الشمس للأفول.

(فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً) في السماء وكان الكوكبُ (زهرة)، ورأى إنّ جماعة من الناس يعبدونه، ويخضعون له فتعجّب من فعلهم هذا.

و(قال) مستنكراً عبادتهم للكوكب: (هذا ربي)؟ ونظر إليهم في صمت! لكن كان يتحيّن الفرصةَ، للردّ عليهم..

فلمّا (أفل) غربَ الكوكبُ.. واختفى عن الأبصار توجّهَ إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدون الكوكب و(قال) لهم: (لا أحبُّ الآفلين).

* * *

ثم مرّ بجماعة أخرى، فرآهم يخضعون للقمر ويعبدونه.

(فلما رأى القمر بازغاً) طالعاً من الأفق.. ورأى أن أولئك النفر يعبدونه (قال هذا ربي)؟! مستنكراً فعلهم، متعجباً من عبادتهم!!

لكنّه صبر، وانتظر، حتى يرد عليهم، وتحيّن الفرصة! (فلما أفل) اختفى تحت الأفق! توجّه إلى القوم، و(قال): (لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضّالّين).

* * *

وبعد ذلك.. بقي إبراهيم، إلى أن طلعَ الصبحُ، وخرجت الشمس وإذا به يمرّ بجماعة، يسجدون للشمس، ويعبدونها!

(فلما رأى الشمس بازغةً) ورأى أنّ القوم يخضعون أمامها (قال هذا ربّي هذا أكبر)؟! مستنكراً فعلهم، متعجّباً منهم، كيف يتخذون الشمس إلهاً؟!

لكنه صبر، حتى يردّ عليهم.. وإذا بالشمس تميل نحو الغروب.

(فلما أفلت) وغابت عن الأبصار.. توجه إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدونها و(قال يا قوم إني بريء مما تُشركون) وكيف تجعلون لله شريكاً؟ إن (الزهرة) و(القمر) و(الشمس) ليست بإله.

(إنّي وجهتُ وجهي للذي فَطَرَ السماواتِ والأرض) خلقها، وأبدع صُنعها.. (حنيفاً) مائلاً عن الشرك إلى الإيمان بالله (وما أنا من المشركين).

* * *

كان (آزر) منجّم الملك (نمرود) عم إبراهيم، وكان عارفاً بنحت الأصنام، فكان ينحتها ويعطيها لأولاده، حتى يبيعوها للناس. وكان إبراهيم يحترم عمّه (آزر)، حتى أنه كان يناديه: (يا أبه)! وقد أحبّ آزرُ ولد أخيه حباً شديداً.

ولما كبر إبراهيم ورشد، دفع إليه (آزر) بعض الأصنام التي كان قد نحتها، وأمره أن يبيعها، كما يبيع أُخوته. لكن إبراهيم، كان نبياً عظيماً، يعلم إنّ هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما هي أشياء منحوتة. فكان يعلّق في أعناقها الخيوط.. ويجرّها على الأرض ويقول:

من يشتري ما لا يضرُّه ولا ينفعُه؟

وكان يستهزئ بالأصنام.. فيُغرّقها في الماء والوحل.. ويقول لها:

اشربي.. وتكلمي.

* * *

وفي ذات يوم، وشى أُخوتُه خبر ما يفعلُ إبراهيمُ بالأصنام إلى (آزر) فنهاهُ آزرُ عن هذا العمل.. فلم ينته إبراهيم، عند ذلك، اغتاظ آزر فحبس إبراهيمَ في منزله ولم يدَعْهُ يخرج.

ولما انكشف أمرُ إبراهيمَ عند (آزر) وأنه يعبد الله تعالى ولا يعبد الأصنام، التي كان (آزر) يعبدها، ذهب إبراهيم إليه، ليدعُوه إلى الله، وأخذ يدعوه بكلّ أدبٍ ولطفٍ، قال: (يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئاً)؟

(يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِك) وقد علمت أن هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما الإلهُ هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما (فاتبعني أهدِكَ صراطاً سوياً).

(يا أبتِ لا تعبدْ الشيطان) فانك إذا عبدتَ الأصنامَ، كنت عبدتَ الشيطان لأنك قبلت قوله، وخالفت أوامر الله (إن الشيطان كان للرحمن عصيّاً). (يا أبتِ إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن).

وهكذا أخذ إبراهيم، ينصح عمّه (آزر) بكلّ أدب ولطف، لكن عمّه اغتاظ من مقالة إبراهيم، و(قال أراغِب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)؟! وتعبدُ إلهاً آخر؟! (لئنْ لم تنتَهِ) عن مقالك هذا، (لأرجمنَّكَ) بالحجارة، حتى تموتَ.

ثم طرد إبراهيم من عنده، (و) قال له: (اهجرني ملياً): تغيّب عني مدة مديدة، حتى لا أراك.

ولما رأى إبراهيم هذه الخشونة والتهديد من آزر، ودّعه وداع متأدب، (قال سلام عليك) سلامُ وداع.

(سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً) وأطلب منه أن يغفر لك (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربّي شقياً) وانصرف إبراهيم من عنده كئيباً.

* * *

وشرع إبراهيم يدعو إلى الله تعالى، ويأمر قومه بنبذ الأصنام، ولكن.. القوم لم يستجيبوا لإبراهيم دعوته وأصرّوا على الشرك (وحاجّة قومه) في ألوهيّة الأصنام.. قالوا: إن الأصنام هي الآلهة، واللازم علينا أن نعبدها.

(قال أتحاجّوني في الله) وتدعوني إلى أن اترك الله (وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به) فإني لا أخاف من آلهتكم، وأي ضرر يمكن أن يضرّني به الصنم أو الكوكب والقمر والشمس؟ كلاّ! إنها لا تضر ولا تنفع (إلا أن يشاء ربي شيئاً) فانّ ربي هو الذي يضر وينفع، وأن أصنامكم لا تعلم شيئاً (وسع ربي كلّ شيءٍ علماً) يعلم كل شيء (أفلا تتذكرون)؟

ثم خوفهم إبراهيم من عذاب الله، قال: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) وجعلتم له شريكاً كذباً، لكنّ القوم أصرّوا في العناد.. ولم ينفعهم كلام إبراهيم. ثم أخذ ينصحهم مرّة ثانيةً.

(إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون)؟

(قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين).

(قال هل يسمعونكم إذ تدعون)؟

قالوا: لا.. إنها أصنام من جماد لا تسمع دعوتنا.

قال: هل (ينفعونكم أو يضرّون)؟

قالوا: لا.. إنها لا تتمكّن من جلب نفع أو دفع ضرر.

قال: فكيف تعبدون ما لا يسمع.. ولا ينفع.. ولا يدفع؟

(قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وإنا نتبع آباءنا تقليداً لهم.

(قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين) إن الأصنام أعداء الإنسان، إنها توجب للإنسان شرّ الدنيا وشرّ الآخرة. أمّا الله تعالى فهو الذي يدبّر أمور الإنسان: (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين). ولكنّ القوم لم يقبلوا كلام إبراهيم، وركبوا رؤوسهم، ولم يؤثر فيهم نصحه ومنطقه.

* * *

حضر عيدٌ للقوم.. وخرج الملك الجبّار (نمرود) وأهل المدينة إلى الصحراء، لأداء مراسيم العيد هناك ولم يخرج معهم إبراهيم. فلما ذهبوا، أخذ إبراهيم شيئاً من الطعام، وذهب إلى بيت الأصنام.

(فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)؟ (ما لكم لا تنطقون)؟‍

فكان يدنو من كل صنم فيقول له: كل.. تكلم. فإذا لم يجبه، أخذ القدّوم، فكسر يده ورجله. ثم علّق القدوم في عنق الصنم الكبير، الذي كان في صدر البيت. وخرج لشأنه..

* * *

ورجع الملك والقوم من العيد.. ولما دخلوا دار الأصنام، رأوا الأصنام محطّمة. فكثر فيهم اللغو والصياح. من فعل هذا بآلهتهم؟ ومن تجرّأ على مسّ كرامة مقدساتهم. وأخذوا يستفسرون الناس:

(قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنّه لمن الضالمين)؟

(قالوا سمعنا فتى يذكرهم) يذكر الأصنام بسوء (يقال له إبراهيم).

(قالوا فأتوا به على أعين الناس) وإذا بالقوم يطلبون إبراهيم.. هنا.. وهنا حتى وجدوه وجاءوا به إلى مجمع الناس. وهناك نظر القوم إليه في غضب واستنكار، (وقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم)؟

ورأى إبراهيم الموقع مهيئاً، لنشر الدعوة فأشار إلى كبير الأصنام، الذي كان القدوم في عنقه، وقال: كسّر الأصنام هذا الصنم الكبير إن نطق.. ومعناه: وإن لم ينطق فلم يفعل كبير الأصنام ذلك.

وأراد بهذا الكلام أن يرشدهم إلى أنّ الصنم لا يتكلم فكيف تتخذونه رباً؟ ووقع كلام إبراهيم في قلوبهم: كيف يُعبد صنم لا يكلم؟ (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون) وليس إبراهيم ظالماً.. إنه أراد هدايتكم، وأنتم الذين تزيدون عناداً وإصراراً. (ثم نكسوا على رؤوسهم) فلم يرفعوها خجلاً. وأخذوا يتمتمون في أنفسهم: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فكيف نتخذهم رباً؟

واغتنم إبراهيم هذه الفرصة، فأخذ يعاتبهم على عبادة الأصنام و(قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)؟!

* * *

استشار (نمرود) قومه، في أمر إبراهيم (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). فحبس إبراهيم، وأمر بجمع الحطب ـ ولقد كان في قليل من الحطب كفاية لحرق إنسان ـ لكن القوم من كثرة غضبهم على محطّم آلهتهم. أخذوا يجمعون الحطب من كل مكان، حتى صار الحطب كجبل عظيم.. ثم أشعلوا الحطب ناراً.. فانتشرت حرارتها في الفضاء بحيث لم يكن يحلّق طائر في تلك الأجواء، إلا سقط محترقاً.. ولم يتمكن ذو روح من الدنو.

وحينذاك صعب عليهم الأمر، يا ترى كيف يلقون إبراهيم في تلك النار التي لا يتمكن من اقترابها بشر؟ وإذ هم في حيرة من أمرهم. أشار شخص أن يصنعوا المنجنيق، وهي آلةٌ حربية، تقذف بما يوضع فيها من إنسان أو حجر أو غيرهما. فاستصوبوا رأيه، وأمر الملك الطاغي، بصنع الآلة..

فصنعت ثم وضعوا فيها إبراهيم. وهناك جاء (آزر) عمّه، فلطم إبراهيم، وقال له: ارجع عما أنت عليه.. إشفاقاً على إبراهيم من الحرق.

لكن (إبراهيم) كان أربط جأشاً، من أن يضعضع إيمانه خوف أو تهديد.. فلزم جانب الحق، ولم يرجع، بل أصرّ على مبدئه، وإن حرق بالنار.

* * *

وحينذاك أمر (نمرود) الرّماة، أن يقذفوا إبراهيم في النار! فحركوا عجلة (المنجنيق) فرمت بإبراهيم في الفضاء نحو النار.. وعند إطلاق إبراهيم، أمر الله تعالى النار: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)، فانقلبت النيران بإذن الله تعالى روضةً غناءً، يغلب عليها البرد، فاصطكت أسنان إبراهيم من البرد (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين).

فنظر نمرود وأصحابه، من بعيد إلى هذه المعجزة متحيرين!! وفلتت من لسان نمرود كلمةٌ، ما أراد أن يقولها.. ولكنها في غمرة التعجب، أخذت مكانها في الفضاء، قال: من اتخّذ إلهاً، فليتخذ مثل إله إبراهيم! لكن أحد المتملقين أراد تدارك الأمر، ليقربه إلى نمرود زلفى.. فقال: إني عزمت على النار أن لا تحرقه. فتطاير شررٌ من النار إلى ذلك المتزلّف.. حتى أبان كذبه: فإن من لا يقدر على أن يرد الشرر عن نفسه، كيف يتمكن أن يعزم على النار أن لا تحرق أحداً؟

ونظر نمرود إلى آزر، عم إبراهيم.. وقال: يا آزر، ما أكرم ابنك على ربه؟ ثم خرج إبراهيم من النار، وجاء إلى نمرود، ليدعوه إلى الله من جديد.

* * *

قال نمرود: يا إبراهيم، من ربك؟

(قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت).

(قال أنا أحيي وأميت).

قال إبراهيم: كيف تُحيي وتُميت؟

قال نمرود: اطلب رجلين ممن وجب عليهم القتل، فأطلق واحداً، وأقتل واحداً، فأكون قد أمتّ وأحييت.

وكان هذا الكلام من (نمرود) خطأً، إذ معنى كلام إبراهيم (عليه السلام) أن الله يعطي الحياة، ويقبض الأرواح. أما كلام نمرود أنه يطلق سراح الجاني، فليس هذا إحياءً..

فقال له إبراهيم: إن كنت صادقاً، فأحْي الذي قتلته.. لكن نمرود لم يحر جواباً.

ثم أن إبراهيم أعرض عن مقالة نمرود وأراد أن يلزمه بحجةٍ أخرى.. فقال: دع عن هذا (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب).. فإن كلّ يوم صباحاً، تطلع الشمس من المشرق، وذلك من صنع الله تعالى.. فإن كنت أنت إلهاً، فاعكس الأمر، وائتِ بالشمس من طرف المغرب. (فبهت الذي كفر) وانقطع نمرود عن الحجة، فلم يتمكن أن يجيب إبراهيم. وظهر على الكل أن نمرود كاذبٌ في دعواه الألوهية.

* * *

وذات يوم مر إبراهيم على ساحل البحر، فرأى جيفةً على الساحل: بعضها في الماء، وقد اجتمع عليه بعض الأسماك تأكله.. وبعضها في البر، وقد اجتمع عليه بعض السباع تأكله. عند ذاك تفكّر إبراهيم في كيفية إعادة الأموات، يوم القيامة. فطلب من الله، أن يريه إحياء الأموات، حتى يصير علمه عياناً.

فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى)؟

(قال) الله تعالى: (أو لم تؤمن)؟

(قال) إبراهيم: (بلى) إني مؤمن (ولكن ليطمئن قلبي).

(قال) الله تعالى: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم).

فأخذ إبراهيم الديك.. والحمامة.. والطاووس.. والغراب.. فذبحهن، وقطّعهن، وخلطهنّ، ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت الجبال عشرة ـ جزءاً من تلك الأجزاء المخلوطة، وجعل مناقير هذه الطيور الأربعة بين أصابعه. ثم دعا الطيور بأسمائهن ـ ووضع عنده ماءاً وحبّاً ـ فتطايرت تلك الأجزاء، وانضمّت بعضها إلى بعض، حتى كملت الأبدان وجاء كل بدنٍ حتى لحق برأسه ومنقاره، فخلّى إبراهيم (عليه السلام) سبيلهنّ، فطرن، ثم وقعن، فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب، وشكَرن إبراهيم..
54
8K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

milagro
milagro
نوح (عليه السلام)

كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون، يعبدون الله وحده ويعتقدون بالمعاد، ويفعلون الخيرات، فمات أولئك القوم، فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم. فعمل بعض تماثيل أولئك، وكانوا يسمّون بهذه الأسماء: ودّ، سواع، يغوث، يعوق، نسر..

وأنس الناس بهذه التماثيل، وجعلوها رمزاً لأولئك النفر الصلحاء الذين ماتوا منهم. وكان أهل المدينة يعظّمون هذه الصّور، قصداً إلى تعظيم أولئك الأموات.

مضى الصيف، وجاء الشتاء، فأدخلوا الصّور في بيوتهم. ومضى زمان.. وزمان.. حتى مات الآباء وكبر الأبناء، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل، ويخضعون أمامها. وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذاً عظيماً. وإذا بالجيل الثاني، شرعوا يعبدون الصور.. ويقولون إنها آلهةٌ، يجب السجود لها، والخضوع أمامها. فعبدوها، وضلّ منهم خلق كثير.

* * *

وحينذاك، بعث الله إلى أولئك القوم نوحاً (عليه السلام) ليرشدهم إلى الطريق.. وينهاهم عن عبادة الأصنام.. ويهديم إلى عبادة الله تعالى.

فجاء نوح إلى القوم.. (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره) فكذّبوه، ولم يقبلوا منه، فأنذرهم من عذاب الله تعالى.

قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).

(قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين).

(قال يا قوم ليس بي ضلالةُ ولكني رسول من ربّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون). فتعجّب القوم من مقالة نوح.. وجعلوا يقولون: أنت بشر مثلنا، فكيف تكون رسولاً من عند الله؟ وإن الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة.. ثمّ لا فضل لكم علينا، فلستم أكثر منّا مالاً أو جاهاً.. وإنا نظنّ إنكم كاذبون في هذه الادعاءات.. وقال بعض القوم لبعض: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم إن هو إلا رجل به جنّة)

وشجّع بعض القوم بعضاً، في عبادة أصنامهم (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً).

ولما طال حوارهم وجدالهم، قال نوح: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم)؟ وأخذ نوح (عليه السلام) جانب اللين واللّطف، ولكن القوم لم يزيدوا إلا عناداً.

* * *

ولكن نوحاً (عليه السلام) لم ييأس منهم، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين.. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه (واستغشوا ثيابهم) تغطّوا بها حتى لا يروه. وكثيراً ما هاجموه، وضربوه حتى يغشى عليه! لكنّ نوحاً النبي العظيم العطوف الحليم، كان إذا أفاق يقول: اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

وفي مرات أنهكوه ضرباً وصفعاً، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة، وهو مع ذلك كلّه كان يلطف بهم، ويدعوهم إلى الله تعالى، فكانوا يقولون: لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)؟

حتى علم أنه لا يفيدهم النصح، فتوجّه إلى الله تعالى، ضارعاً، وبيّن كيفيّة ردّهم إياه (قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً).

(ثم إني دعوتهم جهاراً)، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً)، (يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً).

* * *

واختلق بعض أولئك الكفّار عذراً تافها.. فقالوا: (أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا، وإعزازنا لك، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك.. فإنّا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع، والكبير والصغير؟

فأجابهم نوح (عليه السلام)، بلهجة كلّها حنان وتذكير: (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربّي لو تشعرون)، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حدّ سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع، والغنيّ والفقير، والكبير والصغير.

ولما انقطع القوم عن الاحتجاج.. ولم يتمكّنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح (عليه السلام)، أخذوا يهدّدونه، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين).

* * *

وقد علم نوح (عليه السلام) أنهم لا يقبلون منطقاً، ولا يهتدون، فضرع إلى الله تعالى، في أن ينجّيه من هؤلاء المعاندين (قال ربّ إن قومي كذّبون)، (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين).

وحيث كان نوح يخوّف قومه من عذاب الله، إن أصرّوا على الكفر.. قال بعضهم، استهزاءً: إلى متى تهدّدنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).

فأجابهم نوح: إن هذا الأمر ليس بيدي.. و(إنما يأتيكم به الله إن شاء).

ثم توجه إليهم في تحسّر، وقال: (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).

وعند ذاك توقّع النّصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنّه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحى إليه الله تعالى: (إنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).

* * *

وإذ تمّت الحجة.. وانقطعت الأعذار، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون، يئس نوح منهم يأساً باتّاً، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد. فدعا إلى الله تعالى، قائلاً: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).

وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب. وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذّب طفلاً صغيراً بذنوب الآباء.. فعقّم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير مكلّف.

وفي تلك المدّة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرّون به ويسخرون منه، ويستهزئون به، قائلين: انّه شيخٌ قد أتى عليه تسعمائة سنة، وبعد يغرس النخل! وكانوا يرمونه بالحجارة..

ولما بلغ النخل، وانقضت خمسون سنة، أمر نوحٌ بقطعه.. فقالوا: إن هذا الشيخ قد خرف.. وبلغ منه الكبر مبلغه! مرّة يقول: أنا رسول.. ومرّة يغرس النخل.. ومرّة يأمر بقطعة؟

* * *

ولمّا اكتمل الأمر وصارت المدّة ألف سنة إلا خمسين عاما، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا). فأخذ نوح (عليه السلام) يصنع الفلك، وجبرئيل يعلّمه كيف يصنعها.. وإذ كان من الواجب صنع سفينة تسع ملايين المخلوقات، أوحى الله إليه: أن يكون طول السفينة ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ثمانمائة ذراع، وارتفاعها ثمانين ذراعاً، فيكون الحجم سبعة ملايين، وستمائة وثمانين ألف ذراع.

لكنّ نوحاً (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يعينه على صنع مثل هذه السفينة الكبيرة، قال: يا ربّ من يعينني على اتخاذها؟ فأوحى الله إليه: ناد في قومك، من أعانني عليها، ونجر منها شيئاً صار ما ينجره ذهباً وفضة. فأعانوه في صُنعها. وكان محلّ صنع السفينة صحراء وسيعة (ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملا من قومه سخروا منه)!

فكان بعضهم يقول: أيها النبي، لم عدلت عن رسالتك إلى النّجارة؟

وبعضهم كان يقول: يا نوح صرت نجّاراً بعد النبوّة؟!

وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!

وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحاً بالجنون والسّفه.

ويجيبهم نوح (عليه السلام) في تأدّب ولين: (إن تسخَروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مقيم). واشتغل بالعمل جادّاً، حتى تمّ صنع السفينة.

* * *

ثم أمر الله سبحانه نوحاً أن يحمل في السفينة الذي آمنوا معه.. ومِن كل ذي روح زوجين اثنين، لئلا ينقرض نسل الحيوان.. وقد كان نوح هيّأ لكلّ صنف من أصناف الحيوان، موضعاً في السفينة، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء، ولا يتمكّن أن يعيش فيه.

فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغزال اثنين، ومن اليحمور اثنين، ومن البغل اثنين، ومن الفرس اثنين، ومن الأسد اثنين، ومن النمر اثنين، ومن الفيل اثنين، ومن الكلب اثنين، ومن الدّب اثنين.. وهكذا..

وحمل من الحمام اثنين، ومن العصفور اثنين، ومن الصعوة اثنين، ومن الغراب اثنين، ومن الكركي اثنين، ومن البلبل اثنين، ومن الببغاء اثنين، ومن النّسر اثنين ومن الهدهد اثنين، ومن الفاختة اثنين، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا..

وحمل من الجعلان اثنين، ومن اليراعة اثنين، ومن اليربوع اثنين، ومن السنور اثنين، ومن الخنافس اثنين.. وهكذا..

وبالجملة فقد صنع في السفينة اكبر حديقة حيوانية شاهدها العلم. وجمع في السفينة لكل حيوانٍ من طعامه الخاصّ مبلغاً كثيراً. هكذا شاء الله.. ونفّذ مشيئته نوح (عليه السلام).

وحمل الذين آمنوا به، وكان عددهم ثمانين شخصاً.. (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربّي لغفور رحيم).

* * *

وكان لنوح (عليه السلام) زوجتان، إحداهما مؤمنة، والثانية كافرة.. وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحاً، وتقول للناس: إن زوجي مجنون وإذا آمن أحد، أخبرت الكفّار.

وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة، حيث يقول: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين).

ولما ركب نوح (عليه السلام) السفينة، اركب معه الزوجة المؤمنة، وترك الكافرة، فغرقت مع سائر الكفار.

* * *

ولما ركب نوح والّذين آمنوا معه السفينة، وأركب جميع الحيوانات، كلاً في موضعه.. كسفت الشمس، وأخذت السماء تمطر مطراً غزيراً، وطفقت عيون الأرض تنبع بالمياه الكثيرة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) منصب انصباباً شديداً لا ينقطع (وفجّرنا الأرض عيوناً) حتى جرت المياه على وجه الأرض (فالتقى الماء) ماء الأرض وماء السماء، حتى صار العالم كبحر كبير.

واستمرّ هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوماً. وفي تلك الأثناء، كانت السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح، وإذا بنوح (عليه السلام) يشرف من السفينة فيرى ولده، يقع مرّة، ويقوم أخرى، يريد الفرار من الغرق، فناداه: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين). لكن الابن العاق أبى قبول نصيحة والده الشفيق، وأجاب نوحاً (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).

فنظر إليه نوح نظر مشفقٍ، وقال: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم). ولكنّ عناد الولد، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه، فلم يركب السفينة، وكانت السفينة حينذاك (تجري في موج كالجبال).

وبعد برهة من هذه المحاورة (حال بينهما) بين نوح وولده (الموج فكان من المغرقين). وأخذت نوح (عليه السلام) الرقة على ولده، فتضرّع إلى الله تعالى في نجاة ابنه الغريق، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله، فقال نوح (عليه السلام): (ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين).

ولكنّ الله تعالى، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين، ولذا أجابه: (يا نوح إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح).

بعدما غمر الماء جميع الأرض، وهلك كل كافر (قيل يا أرض ابلعي ماءك)! فغاض الماء الذي نبع من الأرض، وأوحى إلى السماء: (يا سماء اقلعي) وكُفي عن الانصباب والمطر، فانقطع المطر (واستوت) السفينة (على الجودي) وهو جبل، أرست السفينة عليه، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من الأمطار، تتسرّب إلى البحار.

وأوحى إلى نوح (عليه السلام): (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أممٍ ممن معك) فنزل نوح من السفينة، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه، وبنوا مدينةً، وغرسوا الأشجار، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم.

وابتدأت العمارة في الأرض، وأخذ الناس يتوالدون ويتناسلون، وأوحى الله تعالى إلى نوح: يا نوح، إنني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، فقد عصوني، وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي، فغرّقتهم.
milagro
milagro
موسى (عليه السلام)

كان يوسف (عليه السلام) ملكاً في مصر، وقد جمع بين النبوّة، والملوكية، فكان ينظّم أمر الناس على وفق العدل والحكمة.

وحين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب، وهم ثمانون رجلاً.. فقال لهم: إنّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويكون الملك للكافرين ويصبح المؤمن في هذه البلاد ذليلاً بأيديهم.. ويسومونكم سوء العذاب. وإنما ينجّيكم الله من أيديهم، برجل من ولد (لاوي) بن (يعقوب) اسمه: موسى بن عمران.

وبعدما أخبر يوسف بني إسرائيل بهذا الخبر، حزنوا لما يتوقعونه من البلاء، وفرحوا بما ينتظرونه من الفرج على يد نبيّ من بني أبيهم.. ومات يوسف (عليه السلام).

فملك بعده رجلاً لا يسير سيرة يوسف في كل كبير وصغير.. وكيف يعدل بيوسف غيره: وهو نبيّ من عند الله تعالى لا يأمر إلا بالخير، ولا يفعل إلا الخير. ثم مات الملك..

وملك بعده رجل آخر، وكان عاتياً فاجراً.. وهكذا أقام بنو إسرائيل، بعد وفاة يوسف، وقد كثروا، وانتشروا، متمسّكين بدين آبائهم يوسف، ويعقوب، وإسحاق وإبراهيم (عليهم السلام).

حتى زمان الملك فرعون.. وهذا الملك الطاغي فتح لمصر صفحة جديدة من الطغيان والإرهاب، وخصّص لبني إسرائيل ألواناً من العذاب والنكال.

كان بنو إسرائيل ينتظرون مقدم موسى (عليه السلام) لينجّيهم من طغيان فرعون وقسوته. وكان كلّما ولد لأحدهم مولود سموه عمراناً.. فإذا كبر عمران، سمّى ولده موسى رجاءً لأن يكون هو الذي وعد به يوسف (عليه السلام) حين حضرته الوفاة ولكن خابت الظنون، فلم يكن موسى الموعود أحدهم.

واغتنم بعض متطلبي الرئاسة هذا الوعد، فجعل من نفسه موسى النبيّ! حتى ادّعى خمسون من بني إسرائيل انهم هم الذين وعدهم يوسف، وكلّهم يدّعي أنه ينزل عليه الوحي، وانه هو مخلص بني إسرائيل، كذباً وافتراءً!

ولم يزل فرعون يسمع هذه الأخبار عن بني إسرائيل وكان قد علم أن بني إسرائيل يرجفون به ويطلبون هذا الغلام. فاستشار كهنته وسحرته في هذا الأمر المهم.

قالوا: إن المسموع صحيح، وهلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام.

وحدّدوا وقت ولادة الغلام بعامِ مخصوص. وهنا ثار ثائر فرعون، وجعل يخبط خبط العشواء للظفر بهذا الذي سيولد، مما يكون بيده هلاكه وتقضي أيامه!! أما كيف يصنع؟ وكيف يظفر على هذا المولود فهو سر مغلق، لا تساعده حيلته على ذلك!!

وأخيراً ارتأى أبشع الآراء، وقرّر تنفيذه بكل صرامةٍ وقسوةٍ. جعل القوابل على النساء، في ذلك العام الذي أخبر بولادة موسى فيه وأمر بأن يذبح كل غلام يولد في ذلك العام، ليستريح من موسى من أوّل أمره.

وعجّ بنو إسرائيل من هذا الحكم الإجراميّ واجتمع بعضهم إلى بعض لحلّ المشكلة. وكان فيهم عمران والد النبي موسى (عليه السلام).

فقال بعضهم: إذا ذبح الغلمان واستحيى النساء هلكنا ولم يبق لنا نسبٌ، فمن الرأي أن لا ينكح رجالنا نساءنا حتى لا يولد لنا مولود.. وبذلك ننقرض جميعاً، أما أن تبقى البنات ويذبح الأولاد فمعنى ذلك: أن نقدّم بناتنا إلى آل فرعون غنيمة باردة. لكنّ عمران أبى هذا الرأي.. وقال: أمر الله واقعٌ ولو كره المشركون.

وقد أصرّ فرعون في تعذيب بني إسرائيل، وقتل أطفالهم، حتى قتل من أطفال بني إسرائيل نيفاً وعشرين ألف مولود. بالإضافة إلى ما كان يأمر به من تعذيب الرجال والنساء. وقد كان من صنوف تعذيبه أن أمر بتقييد أرجلهم لئلا يفرّوا.. ثم كان يستعملهم في البناء، فكانوا ينقلون الطين على السلالم إلى السطوح، بأرجل مقيدة.. وكثيراً ما كانوا يقعون من السلّم فيموتون أو يزمنون، أو يصابون بصنوف الرض والكسر والتشويه.

وفي مثل هذا الوقت.. وفي هذا الجوّ الخانق تعذيباً وإرهاباً.. حملت أمّ موسى.. فوكل بها فرعون قابلةً تترقّب ولادتها، فإن كان الولد ذكراً ذبحه وإن كانت أُنثى استحياها.. وألحت القابلة في حراستها، فإذا قامت الأم قامت القابلة في إثرها، وإذا جلست جلست القابلة إزاءها لئلا يفوتها زمنٌ من حالها.

لكنّ الله تعالى شاء أن تنقلب القابلة عن هذه الصرامة، فأحبّت أُمّ موسى حباً كبيراً، لما رأت فيها من الأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع. أما الأُمّ فقد أخذها الخوف، وظهر على ملامحها فشحب وجهها ومال إلى الاصفرار.

قالت القابلة يوماً لأُمّ موسى: يا بنية، ما لك تصفرّين وتذوين؟

فأجابت الأمّ قائلة: لا تلوميني، كيف لا أخاف انّه إذا ولدت أخذ الولد وذبح!

لكن القابلة سلّتها، وقالت: لا تحزني، فإني سوف اكتم عليك.

أما الأم فقد ظلّت في شك من هذا الوعد، إلى أن ولدت بموسى (عليه السلام)، وكانت القابلة حاضرة حين الولادة، فالتفتت إليها أُمّ موسى، وملء نظرها استعطاف واستيفاء للوعد.. وفوّضت أمرها إلى الله قائلةً: ما شاء الله، وانتظرت أمر القابلة.

ولما أن سمع الناس ولولة الطلق، ذهبوا يخبرون الحرس الملكي، الذين وكّلوا بذبح الأطفال، فحضروا باب البيت، وتحيّرت القابلة في الأمر، ماذا تجيب الحرس؟ وكيف تنقض عهداً عهدته إلى الأمّ المحببة إليها؟

لكنها أخيراً، توجّهت إلى الأمً قائلة: إني سوف اكتم عليك، كما وعدتك فلا تخافي، وحملت الأم والولد فأدخلتها المخدع، وأصلحت بعض أمرها، ثم خرجت إلى الحرس قائلة: انصرفوا، فانّه خرج دم منقطع. فانصرف الحرس، واطمأنت الأمّ، وجزت القابلة خيراً.

وهكذا شاء الله تعالى أن يخلّص نبيّه العظيم موسى (عليه السلام) من براثن فرعون المجرم، وحرسه القساة (وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه) فأرضعت الأمّ ولدها الحبيب، بكلّ لهفةٍ وحنان. لكنّها خافت أن يبكي موسى، فيعرف الجيران خبرها، فتقع فيما فرّت منه.

فألهمها الله تعالى أن (..إذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني..) فصنعت أُمّ موسى تابوتاً من خشب، ووضعت ابنها الحبيب فيه، وطبقت التابوت بحيث لا يدخل فيه الماء وذهبت ليلاً إلى الماء. ثم طرحت التابوت في النيل، وقلبها ممتلئ كآبةً وحزناً.

لكن الماء أبى أن يفرّق بين الوالدة الحزينة والولد الحبيب، فجعلت الأمواج تدفع التابوت إلى الجرف.. والوالدة تدفع التابوت إلى الغمر، خوفاً وحزناً! إلى أن ضربت الريح التابوت نحو مجرى الماء، فانطلق به.

لكن الأم كيف تصبر؟ فهمّت أن تصيح لوعةً وشجناً، فربط الله على قلبها، وحفظها (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها). ووعد الله الأم أن يرد الولد إليها، وبشّرها بأن يجعله من المرسلين (إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين).

التابوت ينطلق في الماء، حسب لهب الريح ومجرى الماء.. والولد يكلأه الله بلطفه ورعايته في جوف الصندوق.. والأم أخذت ترجع إلى البيت بقلبٍ والهٍ وأن لمس شيئاً من الهدوء والاطمئنان تصديقاً بوعد الله.

فما هي العاقبة؟

كانت لفرعون امرأةً صالحة تسمى (آسية) من قبيلة بني إسرائيل، وكانت تخالف زوجها في العقيدة والرأي، لكنّها كانت تسرّ معتقدها، خوفاً من سطوة فرعون الجبار الطاغي.

وأتت أيام الربيع فقالت آسية لفرعون: هذه أيام الربيع فأمر لي بضرب قبّة على النيل لكي أتنزّه في هذه الأيام الجميلة. فأمر فرعون بضرب قبةٍ لها على الشطّ، وخرجت هي مع لمّةٍ من جواريها.

وبينما الجواري على الماء.. إذ رأين الأمواج تعلو وتهبط بشيء، ورأت آسية الصندوق في وسط الغمر، فقالت للجواري: ما ترين؟ قلن: يا سيدتنا، إنا لنرى شيئاً كما ترين.. وأتى الماء بالصندوق إلى القرب منهن، فاندفعن في الماء حتى أخذنه، وقد كاد أن ينفلت من أيديهن.

فتحت آسية الصندوق، وإذا فيه طفل جميل كفلقة القمر، فأوقع الله في قلبها محبة منه (ألقيت عليك محبة مني) ووضعت الولد في حجرها، وتفكّرت في أن تتخذه ابناً لها.. فأعلمت الجواري، وقالت: هذا ابني.. وأقرّتها الجواري بهذا التبنّي الميمون.

فقلن: أي والله، أي سيّدتنا، ما لك ولدٌ ولا للملك ـ يقصدن فرعون ـ فاتّخذيه ولداً.

ولكن.. يا ترى، هل يرضى فرعون بذلك؟

قامت آسية إلى فرعون.. فقالت له: إني أصبت غلاماً طيّباً حلواً، نتّخذه ولداً، فيكون قرّة عين لي ولك، فلا تقتله.

قال فرعون: ومن أين هذا الغلام؟

قالت آسية: لا والله ما أدري، إلا أن الماء جاء به..

لكن فرعون أبى أن يقبل قولها.. وهمّ أن يقتله، لما توجس خيفة، من أن يكون الولد من بني إسرائيل.. فألحّت آسية في الإصرار، وشفعت شمائل الولد الحلوة، في قبول فرعون تبنّي الولد.. وسمّاه (موسى) لأنه التقط من الماء.

ولما سمع الناس أن الملك قد تبنّى ابناً.. أرسل كبراء الناس نساءهم إلى آسية لتكون لموسى عليه السلام ظئراً ومربية.. وكلما تقدّمت النساء إلى موسى، لتلقمه ثديها، أعرض عن الثدي، فتحيّرت آسية في أمره.. ماذا تصنع به؟

ثم أمرت جواريها أن يطلبن كلّ امرأة مرضعة أو ذات لبن، ولا يحقرن أحداً كيف ما كان شأنها ومنزلتها فلعل موسى يقبل إحداهن.. أما أم موسى فقد كانت تترقب الأخبار عن ولدها. إذ أنها لم تعلم ما صنع به في النيل! لكنّها لم تظفر بخبر صحيح عن ولدها..

فقالت لابنتها ـ أخت موسى ـ : قصيه وانظري أترين لأخيك من أثر.. فانطلقت البنت تفحص عن موسى الرضيع هنا وهناك، لكنّها لم تقع على خبر؟!

وانتهى بها السير إلى باب دار الملك (فرعون) ودخلت الدار فيمن دخل.. وإذا بها ترى موسى أخاها في حضن آسية.. وقد التمست النساء لإرضاعه، لكنّه يأبى عن قبول لبنهن، وذلك بمشيئة من الله تعالى (وحرّمنا عليه المراضع من قبل).

توجّهت البنت الزكيّة إلى امرأة فرعون قائلة: قد بلغني أنكم تطلبون ظئراً.. وهنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم، وتكفله لكم.

قالت بعض النساء: يظهر أن هذه البنت تعرف أم الغلام وإلا فمن أين لها بالظئر!

أجابت البنت الفطنة: أردت نصحكم.. فإني اعرف امرأة مرضعةً، وإن لم تحبوا أن آتي بها فلا ضير.

لكن آسية أمرت بأن تأتي بالمرضعة، فلعل موسى يقبل ثديها. فركضت البنت إلى أمّها تبشرها بالخبر.. وتبعتها الأمّ إلى دار فرعون. فلمّا دخلت الدار..

قالت آسية: ممن أنت؟

قالت الأم: من بني إسرائيل.

قالت آسية: اذهبي يا بنيّة، فليس لنا فيك حاجة.

توجهت النساء إلى آسية قائلات: انظري يا آسية هل يقبل الطفل الثدي أو لا يقبل؟

فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل.. هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل والمرأة ـ تعني الظئر ـ من بني إسرائيل؟ إن فرعون لا يرضى بذلك أبداً.

قالت النساء: فانظري يقبل أو لا يقبل؟

وقد كانت أُمّ موسى خرجت من عند آسية عندما قالت لها اذهبي يا بنيّة.. فأرسلت آسية ـ بعض الجواري ـ عليها لترجع. فركضت أخت موسى، إلى أمّها تخبرها بالبشارة قائلة: إن امرأة الملك تدعوك.. فأتت الأم فرحة، ودخلت على آسية.

فدفعت آسية الولد إليها، والنسوة ينظرن، أخذت الأمّ ولدها، ووضعته في حجرها، ثم ألقمته ثديها، وإذا بموسى يقبل على المصّ إقبالاً عظيماً واللّبن يجري في فمه. فرحت آسية.. وفرحت النسوة.. وفرحت الأمّ فرحاً كبيراً. قامت آسية إلى فرعون، تخبره الخبر، وتستأذنه في أمر الظئر الإسرائيلية.

فقالت: إنّي قد أصبت لابني ظئراً، وقد قبل منها الرضاع.

قال فرعون: وممن هي؟

قالت آسية: من بني إسرائيل!

قال فرعون: هذا مما لا يكون أبداً: الغلام من بني إسرائيل! والظئر من بني إسرائيل!

فلم تزل آسية تلحّ عليه، وتستعطفه في أمر الغلام وتقول له: وماذا تخاف؟ إنّ الغلام ابنك وينشأ في حجرك.. فهل تراه يبارزك ويخاصمك؟ هذا مما لا يكون.

حتى قبل فرعون، ورضي بالظئر الإسرائيلي (فرددناه إلى أمّه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).

فنشأ موسى في حضن فرعون وداره، في عز واحترام، بينما كان فرعون وجلاوزته يقتلون أولاد بني إسرائيل، خوفاً من أن ينشأ فيهم من أخبر المنجّمون بأنّ زوال ملك فرعون بيده.

وهكذا شاء الله أن يربي نبيه العظيم، في حضن أعدى أعدائه (فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً).

وقد كتمت القابلة.. والأُمّ.. والأخت.. خبر موسى، ومضى زمانٌ، وأتى زمانٌ، واستغنى موسى عن الرضاع، وماتت الأم، وماتت القابلة، وبقي موسى في حجر فرعون، يكلأه الله برعايته ويربيه فرعون ينظر إليه نظر الأب إلى ابنه.

وفي ذات يوم حدث أن موسى ـ وهو غلام صغير يدرج ـ عطس عطسةً فقال: الحمد لله رب العالمين.

فأنكر فرعون ذلك عليه، ولطمه موسى على وجهه وقال: ما الذي تقول؟ فوثب على لحية فرعون ـ وكانت طويلة ـ فقلع بعضها! فهمّ فرعون بقتله!

قالت آسية ـ متشفعةً ـ : إنه غلام حدث ما يدري ما يقول..

فقال فرعون: بلى يدري. قالت آسية: فامتحنه: ضع بين يديه تمراً وجمراً، فإن ميّز بينهما، فافعل ما تريد.

فأمر فرعون بأن يوضع إزاء موسى طبقاً من تمر وكانوناً من جمر.. فمدّ موسى يده إلى الجمر، ووضعه في فمه.. فاحترق لسانه ويده، وبكى بكاءً مراً!

فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك: إنه لا يعقل. فعفا فرعون عنه..

أمّا بنو إسرائيل، الذين كانوا تحت اضطهاد فرعون ونكاله، فقد كانوا منتظرين مقدم موسى، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّه قد ولد.. فكانوا يتذاكرون وعد يوسف (عليه السلام)، وينتظرون نبيّهم المخلّص لهم من أيدي الجبارين.. وكانوا يسأل بعضهم بعضاً عن وقت الفرج، لكن.. لم يكونوا يعرفون ذلك بالضبط.

ولما علم فرعون بإلحاحهم في طلب مخلّصهم زاد في تعذيبهم، وأمر بأن يفرّق بين رجالهم ونسائهم، كي لا يولد لهم المولود المنتظر. ومنع عن مذاكرة موسى منعاً باتاً، ولم يدر أن موسى في بيته!

وقد أثّر الضغط الشديد في بني إسرائيل، فلم يقدروا على ذكر اسم موسى إلا في ظلمات الليل، والخفايا، كي لا يرفع أمرهم إلى الطاغية فرعون. فخرجوا! ذات ليلة مقمرة إلى كبير لهم، له علم ومعرفة، يسألونه عن موعد الفرج؟

قالوا للشيخ: قد كنّا نستريح إلى أخبارك من قبل، وكانت بشائرك بالفرج تسري عنّا بعض الهموم. فإلى متى نحن في هذا البلاء؟ إن فرعون يقتل رجالنا، ويشق بطون نسائنا الحبالى، ويذبح أطفالنا. فمتى الفرج؟

قال الشيخ: إنكم لا تزالون في البلاء حتى يجيء الله تعالى بغلام من ولد لاوي بن يعقوب.. اسمه موسى بن عمران، غلامٌ طوالٌ جعدٌ. وعند ذلك يكون الفرج.

وبينما هم في الحديث، بين يأس ورجاء، إذ طلع عليهم موسى من بعيد.. وهو إذ ذاك حديث السن، وقد خرج من دار فرعون، وهم يزعمون أنه يريد النزهة. لكن موسى كان قاصداً نحو بني إسرائيل، ميمّماً وجهه شطر ذلك الاجتماع المنعقد في ظلمة الليل، وقف على القوم، فتوسّم الشيخ فيه الملامح الموعودة.

فقال: ما اسمك يرحمك الله؟

قال: موسى..

قال الشيخ: ابن من؟

قال: ابن عمران.. فانكبّ الشيخ على قدميه يقبّلهما.

وعرف بنو إسرائيل نبيّهم، فأقبلوا إليه يقبّلون يده ورجله، في فرح وغبطة ثم ودّعهم موسى قائلاً لهم: أرجو أن يعجّل الله فرجكم! وذهب إلى دار فرعون. وفي هذا الوقت علم بنو إسرائيل أن الفرج قد اقترب.. وانّه قد شبّ مخلّصهم من فرعون.

خرج موسى ذات يوم يتفرّج.. فدخل مدينة لفرعون، وبينما هو يسير، فإذا به يرى رجلين يقتتلان (هذا من شيعته) من بني إسرائيل (وهذا من عدوه) من القبط، فكان أحدهما يقول بقول موسى، وكان الآخر يقول بقول فرعون (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) قال الإسرائيلي: يا موسى نجني من هذا القبطي. فتقدم موسى إلى القبطي (فوكزه) ضربه بيده، وكانت الوكزة شديدة، لما كان لـ(موسى) من قوة وبطش (فقضى عليه) ومات القبطي في مكانه. قال موسى: هذا الاقتتال من عمل الشيطان.

فانتشر أمر موسى في الناس، وقالوا: إنه قتل رجلاً من القبط (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب). وخرج في غد ذلك اليوم يتحسّس الأخبار، فإذا به يمرّ بذلك الرجل الإسرائيلي، وهو يتقاتل مع رجل قبطي آخر.. ولما أن رأى الإسرائيلي موسى استصرخه وطلب منه العون في إنجائه من القبطي. توجه موسى إلى الإسرائيلي، وقال له: (إنك لغوي مبين) كل يوم تقاتل رجلاً؟!

لكن موسى ـ بعدما قال هذا الكلام للإسرائيلي ـ نحى نحو القبطي ليزجره وينصر الإسرائيلي (ولما أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما) زعم الإسرائيلي أن موسى يريد الانتقام منه.. فاضطرب وتوجه إلى موسى قائلاً: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)؟! فخاف موسى أن يتبيّن أمره، ويلقى القبض عليه فهرب من محل المنازعة، واختفى.

كان خازن فرعون مؤمناً بموسى (عليه السلام) وكان قد كتم إيمانه عن فرعون.. وبعد الواقعة استشار فرعون أصحابه في أمر موسى؟ وأخيراً استقرّ رأيه على أن يقتله. لكن الله شاء أن يحفظ موسى من القتل.

فأخذ الخازن يناقش فرعون في قتل موسى وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟ لكن لم تنفع المناقشة، وصدر حكم القتل، فلم ير الخازن حلاً للمسألة إلا أن يخبر موسى بالمؤامرة لينجو بنفسه.

(وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) وسمع موسى كلام الخازن (فخرج منها خائفاً يترقّب) بغير دابّةٍ، ولا خادم ولا زادٍ متضرعاً إلى الله تعالى، قائلاً: (رب نجني من القوم الظالمين) وكان يخاف أن يلحقه الطلب!

لكن الله حفظ نبيه عن أذى فرعون وقومه، فلم يظفروا به، حتى خرج من بلادهم.. وورد إلى بلاد آخرين (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).

سار موسى (عليه السلام).. ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى أتى إلى ارض مدين، فرفعت له من البعيد شجرةٌ، فقصدها ليستظلّ بها، ولما اقترب منها رأى تحتها بئراً (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون). ونظر في ناحية، فإذا يرى جاريتين معهما غنمٌ تنتظران صدور القوم، حتى تسقيا غنمهما، من فضل ما بقي في الحوض.

فقال لهما موسى: (ما خطبكما)؟ ولماذا تنتظران؟ (قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير). فرقّ موسى لحالهما، ودنا من البئر، وقال لمن على البئر: أستقي دلوين دلواً لكم، ودلواً لي؟ وكان الدلو كبيراً يحتاج مدُّه إلى جماعة... فقبل القوم كلامه لما رأوا فيه من المنفعة لأنفسهم، فتقدّم موسى (عليه السلام) وحده ـ وكان قويا ـ فاستقى وحده دلواً لمن على البئر ثم استقى دلواً آخر للجاريتين، وسقى أغنامهما.

( ثم تولّى إلى الظلّ فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ) وكان (عليه السلام) حينذاك جائعاً لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً! وكان قد استولى عليه الضعف، والتعب.. فقد قطع الطريق بين مصر ومدين راجلاً خائفاً، ولم يعتد ذلك من قبل حيث انه كان في ظلّ نعيمٍ في بيت الملك، مهيئاً له أفضل الأطعمة، وأحسن المراكب، وأسبغ الرفاه والأمن.

فتضرّع إلى الله تعالى، في أن يمنحه الراحة والأمن والمأكل. استجاب الله دعاء موسى (عليه السلام). فما أن رجعت المرأتان إلى داريهما ـ وكان أبوهما نبياً من أنبياء الله تعالى، واسمه: شعيب (عليه السلام) ـ حتى أخبرتاه بنبأ موسى.

إن شعيب سأل ابنتيه، قائلاً: أسرعتما الرجوع اليوم؟ وقد كانتا اعتادتا التأخر حتى يصدر الرعاء.

فقالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً، فسقى لنا مع القوم، وهذا سبب مجيئنا قبل كل يوم.

فقال شعيب، لواحدة منهما: اذهبي إليه، فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) حتى وصلت إلى موسى (قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام موسى معها، وأرادت الفتاة أن تتقدّم على موسى في المشي لتدلّه على الطريق لكن موسى أبى، وقال: بل كوني من ورائي، وأرشديني إلى الطريق بدلالة.

حتى وصل إلى دار شعيب فدخل الدار، ورحّب به شعيب، واستفسره عن قصته (فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين).
milagro
milagro
الكليم (عليه السلام) وفرعون

فرّ موسى (عليه السلام)، من الطاغية فرعون من مصر، وجاء إلى مدين، ونزل ضيفاً عند النبي شعيب (عليه السلام).

فقالت إحدى بنتي شعيب: (يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين).

قال شعيب: يا بنيّة، من أين عرفت قوّته وأمانته؟

قالت: أمّا قوّته، فقد عرفته يسقي الدلو وحده، وقد كان الدلو لا يتمكن من استقائها إلا عشرة أشخاص.. وأمّا أمانته فقد عرفتها من قوله لي: تأخّري عنّي ودلّيني على الطريق، وأنتِ من خلفي.. حيث لم يرض أن يمشي وقدّامه امرأة.

قال شعيب لموسى: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك) يعني: إن صداق بنتي أن تعمل لي ثماني سنوات، أو عشر سنوات، لكنّ إضافة سنتين على ثماني سنوات تفضل منك (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين).

قال موسى في جواب شعيب: (ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ) سواء خدمتك ثماني سنوات، أم عشر سنوات. فلا لوم بعد ذلك علي. ثم قال موسى: (والله على ما نقول وكيل).

وقبل شعيب الكلام، وزوّج موسى بإحدى ابنتيه، وهي التي ذهبت إلى موسى لتدعوه إلى دار أبيها، وقالت لأبيها: (يا أبت استأجره).

أما موسى فقد قرّت عيناه بالزواج من بنت شعيب.. وخدم شعيباً عشر سنوات تبرّعاً وفضلاً.

* * *

(فلمّا قضى موسى الأجل) وتمّت خدمة عشر سنين، قال لشعيب: لا بدّ لي أن ارجع إلى وطني وأمّي وأهل بيتي، وطلب من شعيب مؤونة.. فأجازه شعيب بالرجوع، وزوّده بعددٍ من الأغنام، كي يعيش هو وزوجته بصوفها ولبنها ولحمها ونتاجها. ثم سلّم إليه عصىً كانت لإبراهيم الخليل (عليه السلام).

فتوادعا وخرج موسى بأهله من دار شعيب يسوق غنمه أمامه، ميَمّماً شطر مصر وطنه ووطن بني إسرائيل قرابته. وكانا يسيران بأغنامهما ليلاً ونهاراً.. حتّى إذا أظلم ليلٌ من الليالي، وصارا في مفازةٍ وسيعة أصابهم بردٌ شديدٌ وريحٌ وظلمةٌ، وأخطأ الطريق، فلم يعرف الجادة.

فإذا به يرى ناراً من بعيد (آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) عن الطريق، فلعلّ عند النار أناس استرشدهم الطريق (أو جذوةٌ من النار لعلّكم تصطلون).

فأقبل نحو النار.. فإذا به يرى شجرةً تلتهب ناراً.. فلما ذهب إليها ليقتبس من النار أهوت النار نحوه، ففزع منها وعدا متقهقراً. ورجعت النار إلى الشجرة! فرجع إليها مرّة ثانية.. فأهوت نحوه! فعدا متقهقرا، وتركها. فالتفت، فرآها قد رجعت إلى الشجرة.. فرجع إليها ثالثةً، فأهوتْ إليه، ففرّ فزعاً ولم يرجع.

وهنا (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين).

* * *

تحيّر موسى في الأمر، ما هذه الشجرة؟ وما هذه النار؟ وما معنى هذا النداء؟! لكنّه جمع قواه، قائلاً: ما الدليل على ذلك، أي على أن الصوت من قبل الله تعالى وأنّه هو الذي خلق الصوت في الشجرة، وكلّم موسى؟!

لكنّ صوتاً ثانياً من الشجرة شقّ الفضاء ووصل إلى مسامع موسى: ما في يمينك يا موسى؟

أجاب موسى قائلاً: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).

(قال ألقِها يا موسى)! وكان ذلك ليرى موسى الدليل على أن المتكلّم هو الله تعالى.

فألقى موسى عصاه، وإذا به يراها انقلبت حيّة عظيمةً تتحرّك!! (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً) من الخوف والدهشة، (ولم يعقب) لم يرجع ليأخذ الحيّة! وازدادت حيرته ووجب قلبه: أترى ما هذه الحيّة؟!

وهناك نودي من جانب الشجرة: (يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين) فرجع نحو الحيّة، وإذا به يراها كأنها جذعٌ، يخرج من فمها لهيب النار، ولها صريرٌ! وكان موسى يرتعد من الخوف، وركبتاه تصطكان، قال موسى: إلهي هذا الكلام الذي اسمع كلامك؟ قال: نعم.. فلا تخف.

وهنا اطمأنّ قلب موسى، ووضع رجله على ذنب الحيّة، ثم تناول لحييها، وإذا به يرى يده في شعبة العصا، قد عادت كما كانت.

* * *

ومرّة أخرى، نودي من الشجرة: (اسلك يدك في جيبك) أي أدخلها في جيبك (تخرج بيضاء من غير سوء) أي إذا أخرجتها، رأيتها كالشمس الطالعة تنير، من دون أن يكون ذلك أثراً للبرص ونحوه. فأدخل موسى يده في جيبه، ولما أخرجها أضاءت له الدنيا.

فناداه الله تعالى: (فذانك) العصا واليد (برهانان) دليلان على نبوّتك (من ربك) فـ(اذهب إلى فرعون وملائه) وادعُهم إلى الله تعالى (إنّهم كانوا قوماً فاسقين). وهكذا أعطى الله تعالى لموسى دليلين عظيمين على كونه مرسلاً من قبل الله تعالى:

أحدهما: إنّه كان كلما ألقى عصاه انقلبت حيّة عظيمة، فإذا أخذها رجعت إلى حالتها الأولى، وصارت عصىً كما كانت.

والثاني: إنه كلّما أدخل يده في جيبه، وأخرجها، ظهرت مشرقةً كالشّمس الضاحية، تنير الفضاء، فإذا أدخلها في جيبه ثانية وأخرجها عادت كما كانت.

لكن موسى (عليه السلام)، خاف من الذهاب إلى فرعون لأنّه قتل من قوم فرعون رجلاً، فمن الممكن أن يقتله فرعون، كما كان قد عزم على ذلك قبل أن يفرّ موسى من مصر بالإضافة إلى أنّ موسى لم يكن منطقياً، فلعلّ فرعون يسخر من كلامه.

أما المعجزتان، فقد كانتا دليل النبوّة، وكبرياء فرعون تمنع عن الإذعان، فكيف يذهب موسى إليه والحال هذه؟ ولذا توجّه إلى الله متضرّعاً: (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) قصاصاً عن قتلي لأحدهم! (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً) أي معيناً على تبليغ الرسالة (يصدقني إني أخاف أن يكذبون).

وأجاب الله دعاء موسى (قال سنشدّ عضدك بأخيك) وهذا استجابةً لدعائه الأول.

* * *

جاء موسى وأخذ معه أخاه هارون ليذهبا إلى فرعون، ويدعواه إلى التوحيد، وأوصاهما الله تعالى بأن يقولا لفرعون قولاً ليناً، لعلّه يتذكّر أو يخشى.

ولما أتى موسى باب قصر فرعون، استأذن الحاجب للدخول؟ فلم يأذن له، وكان ذلك بإيعاز من فرعون.. وبعد مدّة طويلةٍ، وحجبٍ مديد، ضرب موسى باب القصر بعصاه.. ففتحت الأبواب بإذن الله تعالى، ولما مثلا أمام فرعون.

قال لهما فرعون: من أنتما؟

قالا: (إنا رسول رب العالمين فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم).

قال فرعون: وما الدليل على أنكما رسولان؟

قالا: (قد جئناك بآية) علامة تدل على صدق دعوانا وهذه العلامة (من ربّك والسلام على من اتبع الهدى). ثم نصحاه قائلين: (إنّا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولّى).

قال فرعون: (ألم نُربّك فينا وليداً)؟ فقد كنت أنت في حجري وفي بيتي، فكيف صرت نبيّاً تدعوني إلى اتّباعك؟ ثم كنت قد (لبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت) قتلت أحد أصحابي، قبل مدّة.. ثم تدّعي النبوّة؟!

قال موسى: نعم أنا الذي قتلت.. ثم (فررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربّي حكماً وجعلني من المرسلين). وأمّا أنّك تقول: أنا ربيت في بيتك فهل تلك نعمةً تمنّها علي؟ إني إنما ربيت في بيتك لظلمك واضطهادك لبني إسرائيل.. فإنّك إن لم تكن تقتل أولاد بني إسرائيل وتستعبدهم، لم تكن أمي تقذفني في البحر، حتى يلقيني اليمّ إليك لتربيني (وتلك نعمةٌ تمنّها علي أن عبدت بني إسرائيل؟)

* * *

وهنا انقطع فرعون عن الكلام، لأنّه لم يحر جواباً.

أشار فرعون إلى بعض خدمه أن يقتل موسى فقام إليه بعضهم ليقتله، لكن الله تعالى حال دون ذلك، فلم يتمكّن السّياف أن يضرب عنقه. ولما عجز فرعون عن قتله، أخذ يحاجه في الله تعالى.

(قال فمن ربّكما يا موسى)؟

(قال ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي خلق كل شيء على صورته الخاصة ثم هداه بما أودع فيه من الغرائز إلى حوائجه.

قال فرعون ـ وهو يريد أن يغلب موسى في الكلام، حتى يــظهر نفسه في مظهر العالم الفاهم ويظهر موسى في مظهر الجاهل: (فما بال القرون الأولى)؟ فإنك إن صدقت أنك نبي فما حال الناس السابقين الذين ماتوا ولم يؤمنوا بك؟ فهل أنهم معذّبون كما تزعم؟

لكنّ هذا السؤال، لما لم يكن مربوطاً بالمقام، وكان فرعون يريد بذلك تطويل الطريق في المحاجّة، كما هي عادة المعاندين، حيث يفرون من الكلام الذي هو موضع المقصد، إلى كلامٍ تافه لا قيمة له.

لم يُجِب موسى عن كلامه تفصيلاً، وإنما أجاب إجمالاً، بقوله: (عِلمها عند ربي) إن علم تلك القرون، وأحوال الأمم السابقة من الصلاح والفساد لا يرتبط بنا، بل إنه موجود عند الله تعالى وهو المجازي لهم.

وقد أرى موسى (عليه السلام) عصاه لفرعون لعلّه يؤمن، لكن فرعون تمادى في طغيانه، وأظهر عدم الإيمان.. إنه علم صدق موسى، لكنّه خاف أن يذهب سلطانه وعزّه إن آمن، ولذا أظهر الإنكار. (فتنازعوا أمرهم بينهم) جعل من في بلاط فرعون، يتباحثون حول موسى وعصاه، وما ظهر من أمره، هل صادقٌ أم كاذب؟ وما كيفية الخلاص منه؟ (وأسرّوا النجوى) فأخذ يناجي بعضهم بعضاً بكلام سر.

وأخيراً.. قرّر فرعون وأصحابه أن موسى ساحرٌ وليس بنبي، وأن هذه العصا التي تنقلب حيّةً إنما هي سحرٌ وليست بدليل نبوّة.

قال فرعون: إن عملك يا موسى سحرٌ ونحن لسنا من الساحرين حتّى نتمكّن من كسر شوكتك والإتيان بسحر مثل سحرك، وإنما نجعل بيننا وبينك موعداً لندعو السحرة، حتى يأتوك، ويأتوا بمثل سحرك: وحين ذاك يتبين انّك ساحرٌ ولست بنبي، كما تزعم.

هكذا قال فرعون، ليبقى على شوكة نفسه ويظهر للناس أنّه منصفٌ فيما قال. وقبل موسى ذلك.. وجعلوا بينهم موعداً في يومٍ معين.

فأرسل فرعون إلى أطراف مملكته يجمع السحرة، وقد كانت بلاد مصر في تلك الأزمنة مليئةً بالساحرين. فاجتمع جمع كبير من السحرة، حتى أن بعض الروايات تقول أن عدد السحرة كان ثمانين ألفاً.

وقالت السحرة لفرعون: (أئنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟ يجب أن تجزل لنا في العطاء إن غلبنا على موسى.. قال فرعون: نعم لكم الأجر الجزيل (وإنكم لمن المقربين) أقربكم إلى بلاطي، وأقضي حوائجكم.

ولم تكن هناك حاجة إلى هذا العدد الكبير من السحرة، وإنما أراد فرعون إظهار قوّة نفسه، بالإضافة إلى أن الجبّارين ـ دائماً ـ يخافون من سيطرة الخصم، فيجمعون حول أنفسهم ما يضمن لهم النجاح ـ بزعمهم ـ حتى إذا لم ينفع بعضهم نفع البعض الآخر، إبقاءً على رئاستهم وشوكتهم.

* * *

جاء اليوم المعيّن.. وطلعت الشمس، فاصطف الجماعتان فوقف موسى وهارون، وبنو إسرائيل الذين كانوا اتباع موسى (عليه السلام)، في جانب.. ووقف فرعون ووزراؤه وقوّاده والسحرة وجماهير المصريين، في جانب آخر وارتفعت الشمس، حتى صار وقت الضحى.

وقد جاء السحرة بأقسام من (الحبال) و(العصي) جعلوا فيها الزئبق، ولونوها بألوان الحيات والأفاعي، فإذا ألقيت في الشمس تحركت بحرارة الشمس التي تشع على الزئبق، فيظن الناس أنها حيات حقيقية تتحرك بحركتها الطبيعية.

وقالوا لموسى: (إمّا أن تلقي) عصاك (وإمّا أن نكون نحن الملقين) لعصيّنا وحبالنا.

قال لهم موسى: القوا انتم أوّلاً ـ وهكذا يكون الإنسان الواثق من نفسه، لا يأبه لما عند خصمٍ، لأنّه يعلم أن الغلبة له ـ (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) فتحرّكت الحبال الكثيرة والعصي الكثيرة، حتى ملأت الصحراء حركةً واضطراباً، وخاف الناس، وأخذوا يفرّون، زاعمين أن ذلك كلّه حيّاتٌ وأفاعي. وخاف موسى (عليه السلام) أن يغترّ الناس بهذه الحبال ولا يميزوا بين (عصاه) الحقيقة وعصيّهم الخيالية.

لكن الله تعالى، أوحى إليه أن (لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك) أي اطرح عصاك على الأرض حتى تنقلب ثعباناً. وألقى موسى عصاه، فإذا بها تنقلب حيّة عظيمةً، أخذت تعدو في الصحراء، (فإذا هي تلقف ما يأفكون) أي تأكل حبال القوم وعصيّهم بكلّ استعجال.

ولما رأى السحرة ذلك، علموا أن الأمر ليس بسحر، ولو كان سحراً لم يتمكن أن يأكل تلك الحبال والعصيّ التي تربو على الآلاف.. ثم أخذ موسى عصاه، فرجعت كما كانت، من دون أن يزداد حجمها على حجمها السابق وإن كانت أكلت جميع تلك الحبال والعصي.

* * *

ولما علم السحرة صدق موسى، ألقوا بأنفسهم على الأرض يسجدون لله سبحانه، ويعترفون بألوهيّته ورسالة موسى، ويخلعون عن أنفسهم إيمانهم السابق، بألوهيّة (فرعون).

قالوا: (آمنا بربِّ العالمين ربّ موسى وهارون).

وهنا سقط في يد فرعون.. إنّ أنصاره الذين هيأهم لنصرته انقلبوا عليه، ونصروا خصمه (موسى) والناس بطبعهم في مثل هذا الموقف يؤيدون (موسى) فقد شاهدوا بأنفسهم المعجزة، واعترف بصدقها أهل الخبرة!

فماذا يصنع فرعون، أمام هذه الهزيمة المحقّقة؟ رأى فرعون أن أحسن الوسائل التهديد والتعذيب ـ الذي هو عمل الجبّارين المبطلين في مقابل الحق ـ (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)؟ كيف تؤمنون بموسى قبل إذني؟ ألست أنا الملك؟ ثم أراد خداع الناس، بأن موسى والسحرة اتفقوا على هذا الأمر، فقال: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة).

ثم أخذ يهدّدهم، ويقول: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) اقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو بالعكس، لئلا يبقى توازن أجسامكم (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) حتى تموتوا.

لكن السحرة الذين آمنوا، أجابوا فرعون ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ : (اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي تحكم علينا بالتعذيب والفناء من هذه الحياة، ونحن لا نخاف من ذلك، فإننا ننتقل إلى الآخرة والخير السرمديّ.

* * *

ما آمن فرعون، بما شاهد من قصة (عصا) موسى التي انقلبت حية. فأتى إليه موسى (عليه السلام) بثماني معاجز أُخر، كلّها تدل على صحّة نبوّته وصدق كلامه حتى اصبح لموسى تسع آيات كلّها خارقة دالّة على أنه مرسلٌ من قبل الله تعالى، فأدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، وهي تشرق كالشمس، ثم أدخلها في جيبه وأخرجها فرجعت إلى حالتها الأولى وهكذا كان موسى يفعل كلما أراد.

ثم إنّ (هامان) وزير فرعون، لما رأى هامان إيمان السحرة بموسى، قال لفرعون، إن الناس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس فرعون من آمن بموسى من بني إسرائيل خوفاً من توسع الإيمان.

فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (الطوفان) بان غرقت ديار مصر بالماء الكثير حتى اضطرّ الأهالي إلى أن يذهبوا خارج المدينة في الصحاري المرتفعة ويعيشوا في الخيام والأكواخ. وقد علم فرعون أن هذا البلاء من أجل موسى (عليه السلام)، فقال فرعون لموسى ادع ربك يكفّ عنا الطوفان حتى أخلّي عن بني إسرائيل.

فدعا موسى ربّه، فكفّ الله سبحانه ببركة دعاء موسى الطوفان، لكنّ فرعون لم يفكّ بني إسرائيل خوفاً من أن يجتمعوا حول موسى فلا يتمكّن من مقاومتهم، وقد أشار عليه (هامان) وزيره، بعدم فكّهم.

فأرسل الله سبحانه عليهم بعد ذلك (الجراد) فأخذت الجراد تأكل كل شيء لهم، حتى إنّها تأكل لحاهم وشعور جسدهم، فجزع فرعون وآله من ذلك جزعاً شديداً.. فطلب فرعون أن يكفّ الله عنهم الجراد، ليفك بني إسرائيل، فدعا موسى ربّه، فكفّ عنهم الجراد لكنّ فرعون لم يفِ، خوفاً من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وعدم سهولة مقاومتهم بعد ذلك.

* * *

فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (القمل) فكثرت فيهم، حتى أن وجه الأرض امتلأت، ولقوا من الإرهاق والصعوبة ما لا يطاق.

وطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله ليكف عنهم القمل، فإذا فعل ذلك أطلق سراح بني إسرائيل. فدعا موسى وكفّ الله عنهم، لكنّ فرعون نكث بعهده ولم يطلق بني إسرائيل.

فأرسل الله سبحانه عليهم (الضفادع) فكانت تكون في طعامهم وشرابهم وقدورهم وأوانيهم، ولقوا من ذلك عنتاً وعذاباً.

فطلب فرعون من موسى أن يكفّ الله عنهم الضفادع، فإن فعل ذلك كفّ عن بني إسرائيل وأرسلهم إلى موسى. فدعا موسى، وارتفع عنهم (الضفدع) لكنّ فرعون لم يف بعهده بل ألقى بني إسرائيل في السجون.

ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الدم) فقد تحوّل (ماء النيل) دماً، فكان الإسرائيلي إذا أراد شربه، تبدّل عنده ماءاً، فلم يهنأ قبطي بالماء، في شربه، ولا في سائر حوائجه.

فطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله، ليرجع الماء كما كان، ووعده إن فعل موسى ذلك، كفّ عن بني إسرائيل، وأطلق سراحهم ليكونوا مع موسى (عليه السلام). فدعا موسى، وارتفع (الدم) لكنّ فرعون العنيد لم يف بما وعد.

ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الرجس) وهو (الثلج) فنزلت عليهم (الثلوج) وبرد الهواء برداً شديداً، ما لم يكونوا يعهدون، وطلب فرعون من موسى أن يرفع (الله) عنهم الرجس ليكف هو عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفعه الله سبحانه.. لكن فرعون بقي على عناده ولم يطلق بني إسرائيل، حسب ما وعد.

وأخيراً.. ابتلاهم الله سبحانه بـ(الطاعون) فأخذ الطاعون يغزوهم، حتى مات من القبط جمعٌ كثير.

فطلب فرعون من موسى، أن يدعو الله لرفع الطاعون واعداً إياه أن يكف عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفع الله عنهم الطاعون. وهنا.. اضطرّ فرعون للكفّ عن بني إسرائيل، فأطلق سراحهم من الحبس.

واجتمع بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) يسترشدونه في وجه الخلاص من فرعون الذي بقي عاتياً، لا يؤمن، ويضع المشاكل في طريقهم ويعرقل سير الدعوة.

وخاف (هامان) وزير فرعون، من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وأنّب فرعون على تخليه عن بني إسرائيل، فقال له: قد نهيتك عن التخلّي عن بني إسرائيل، وها أنت ترى نتيجة عملك فقد التفوا حول موسى، ويخشى من عاقبة هذا التجمع؟

لكن الأمر كان قد انقضى أوانه، وكان لوم (هامان) في غير موقعه فلم يبق للقبط طاقة في مواجهة العذاب الذي كان ينزل بهم من جرّاء حبس بني إسرائيل، ودعاء موسى.

وأخيراً.. أمر الله تعالى موسى (عليه السلام) أن يخرج مع بني إسرائيل من أرض مصر، إلى مكان آخر يتمكنون فيه من تنظيم أمورهم، وعبادتهم لله سبحانه بلا مزاحم، وقرّر موسى الخروج، وأخبر بني إسرائيل بذلك. فتهيأ الجمع الغفير للفرار من (فرعون) والتخلص من سلطانه.
milagro
milagro
بنو إسرائيل في التيه

تذكّر بنو إسرائيل وهم في التّيه أتعابهم السابقة يوم كانوا في مصر تحت تعذيب فرعون، لأنّهم مؤمنون، وفرعون لا يرضى بالإيمان.

وتذكّروا انتـــظارهم لمقدم مـــوسى ـ حسب مـــا كانوا يحفظون من أخبار الأنبياء السابقين أنّ خلاصهم على يد نبيّ اسمه موسى ـ .

وتذكّروا ما لاقوه من ظلم فرعون، حين جاء موسى وأظهر المعجزات، فلم تزد فرعون إلا ضلالاً واستبداداً.

وتذكّروا ضحايا العقيدة، الذين اضطهدهم فرعون لأنّهم آمنوا برب العالمين. تذكّروا قصة السحرة بعد إيمانهم برب العالمين، رب موسى وهارون، حين قال لهم فرعون: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل) فقالوا: لا ضير (إنا إلى ربنا منقلبون)..

وتذكّروا قصّة ماشطة آل فرعون وأولادها كيف عذبهم فرعون الطاغي، بما لا يدل إلا عــلى الحقد الأسود، والاستبداد الجارف.

فقد كانت في بيت فرعون امرأة صالحة، تمشّط زوجة فرعون وبناته وسائر نساء الوزراء والأقارب، وبعد ما علمت بقصة موسى آمنت خفيةً من فرعون وذويه إلى أن انفلت زمام الإخفاء من يدها ذات مرّة.

فقد كانت تمشّط بنت فرعون في يوم من الأيّام، إذ سقط المشط من يدها فقالت مبادرة: باسم الله. فالتفتت بنت فرعون إلى كلامها، فقالت: ومن تعنين بـ(الله)؟ أبي أو غيره؟ قالت الماشطة: بل ربي وربك ورب أبيك، فقالت البنت: لأخبرن بذلك أبي.. ثمّ ذهبت فأخبرت فرعون.

فدعا فرعون بالماشطة وبأولادها، فقال لها: من ربك؟ فقالت: إن ربي وربّك الله.

فأمر فرعون القاسي، بتنور من نحاس، فأحمي، فدعا بها وبأولادها، ثم طلب منها أن تتبرّأ من دينها! لكنّها أبت إلا الصّمود، وكلّما هدّدها أصرّت على قولها، وعند ذلك أمر فرعون بأن يلقى أولادها في التنّور واحداً واحداً، أمام عينها، فما كان من المرأة المؤمنة الصامدة إلا الصبر والتسليم، وتفويض أمرها إلى الله سبحانه.

وصلت النوبة إلى ولدها الصغير، وهو رضيع في حجرها، فجذبوه منها ليلقى في التنور المسجور، ومن الطبيعي أن تضطرب الأم أشد الاضطراب في مثل هذه الحالة، وأن تذرف الدموع الساخنة.. لكن رحمة الله كانت قريبة منها، فما كان من الرضيع إلا أن نطق ـ بأمر الله تعالى ـ مسلّيا أمّه قائلا: اصبري يا أمّاه إنك على الحق. فألهم هذا الكلام قلب الأم الحنون صبراً وصموداً أكثر، كما أحدث في فرعون وآله رجّة شديدةً، كيف يتكلّم الرضيع؟ أليس هذا دليلاً على صدق كلامها وصحّة إيمانها؟ لكنّ الطغاة اعتادوا أن لا يصيخوا للحق، ولو جاءتهم كل آية.

وما هي إلا دقائق، حتى احترق الرضيع، كأُخوته من ذي قبل! ثم ألحقت الأم بأولادها، فألقيت في التنور، فاحترقت.

وانقضى كل شيء.. فلم يكن للماشطة المؤمنة وأولادها الأطهار خبرٌ أو أثر، وبقي الطاغي يتعطش إلى الدماء أكثر فأكثر.

* * *

تذكّر بنو إسرائيل وهم في التيه كل ذلك ـ فإنّه من الطبيعي أن يتذكر الإنسان مآسيه السابقة، حين يقع في مشكلة جديدة ـ .

كما تذكّروا قصة المرأة الصالحة (آسية بنت مزاحم) زوجة فرعون، التي حفظت موسى يوم كان صغيراً، والتي آمنت به سرّاً يوم جاء موسى رسولاً من عند الله تعالى.

فقد كانت من بني إسرائيل، وكانت تعبد الله سرّاً، حتّى رأت ما صنع بالمرأة الصالحة وكشف الله عن بصرها، فإذا بها ترى روح المرأة يصعد بها الملائكة إلى السماء، فزادت إيماناً وإخلاصاً وتصديقاً.

وبينما هي في لوعة وأسى، على المرأة الصالحة دخل عليها فرعون السفّاك فأخذ يخبرها بما صنع بالمرأة، في نشوة النّصر والانتقام.

فلم يكن من (آسية) إلا أن ازوَرَّت عنه قائلةً: الويل لك يا فرعون! ما أجرأك على الله جلّ وعلا؟ فعرف فرعون إنّها هي الثانية أيضاً مؤمنة. فقال لها: لعلّ الجنون الذي اعترى صاحبتك قد اعتراك.

أجابت آسية: كلاّ، لكن آمنت بالله تعالى ربّي وربّك، وربّ العالمين.

غضب فرعون، وأقسم أن يجبرها على الكفر بموسى وإلهه، وإلا أذاقها النكال والعقاب.. لكن المرأة الصالحة تمسّكت بدينها، وأصرّت على عقيدتها.

فما كان من فرعون الأثيم، إلا أن نسي العلاقات الطيّبة بينه وبين المرأة الشريفة (آسية) ونسي خدماتها طيلة عمرها في دار فرعون.. فأمر أن تمدّد (آسية) في الشمس، وتدقّ على يديها ورجليها المسامير الحديديّة، ثم بعد كل ذلك يوضع على صدرها صخرةٌ عظيمةٌ إمعاناً في تعذيبها ونكايةً بها.

ومرّ موسى على مكان التعذيب، فآلمه ما رآه من عذابها، فدعا الله لها، فرفع الله عنها الألم ورأت مكانها في الجنة، فأخذت تضحك من السرور. ولمّا رأى فرعون ضحكها قال: لقد مسّها طائف من الجنون.. لكن الأمر كان بخلاف ذلك.

* * *

طبيعي أن يتذكر بنو إسرائيل فــي التيه قضاياهم السالفة، وان يتذكّروا قصّة مؤمن آل فرعون، فد كان ابن عمّ فرعون ويسمّى (حزقيل) مؤمناً، وكان يكتم إيمانه، وقد جعله فرعون وليّ عهده، لكنّه آمن بموسى لمّا رأى صدقه ومعجزاته.

وذات مرّة وشي به إلى فرعون أنّه قد آمن بالله، فأرسل فرعون رجلين في طلبه، فرأياه في الجبال يصلّي، فجاءا واختلفا هل يخبران فرعون بخبره أم لا؟ أما أحدهما فقال: لن أخبر فرعون وأمّا الآخر فقد أخبره بما رآه، فغضب فرعون أشد الغضب، وقال: لئن كان هذا صادقاً لأعذّبنّ حزقيل عذاباً شديداً.

وعرف (حزقيل) بالأمر، واستعاذ بالله من شر (فرعون) ثم جاء إلى القصر، وهو وجل خائف.. فلمّا استقرّ به المجلس، قال له فرعون: أتنكر ربوبيّتي، وتصلّي لإله غيري؟ قال حزقيل: ومن قال لك ذلك؟ قال فرعون هذا الرجل. قال حزقيل ـ وقد وجد مفرّا من المأزق الحرج ـ :

أيها الملك اسأل هذين الرجلين اللذين وشي أحدهما بي: من ربّهما، وخالقهما، ورازقهما، فسألهما فرعون عن ذلك؟ قالا: ربنا وخالقنا ورازقنا هو أنت أيها الملك.

قال حزقيل: فاشهد أيها الملك، واشهدوا أيها الحاضرون: أن ربهم هو ربي وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، وليس لي غيره خالقاً ورازقاً وربّاً.. وقد قصد بذلك الواقع، فإن خالق الرجلين وخالق حزقيل هو (الله).

لكن فرعون زعم أن حزقيل يقصد (فرعون) فكفّ عنه وأكرمه، وجعله في محل اطمئنانه واستشارته. أما الرجلان، فأحدهما وهو الذي وشى بـحزقيل فقد لاقى جزاءه من فرعون بالصلب، لأن فرعون ظنّ انه كاذباً في وشايته ضد حزقيل وأما الذي كتم صلاة حزقيل فإنه نجا ولم يمس بسوء، ثم آمن هو كما آمن حزقيل وحَسُن إيمانه.

* * *

أما بنو إسرائيل في البريّة، فقد تابوا وأنابوا لما بدر منهم في مخالفة أمر الله سبحانه الذي أمرهم بدخول الأرض المقدسة. لكن انطبق عليهم المثل المعروف: (ندم زيد ولمّا ينفعه الندم) فقد سبق أمر الله سبحانه، لعقوبتهم على المخالفة، بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وقد كان تيههم في فراسخ معدودة، فإذا أمسوا أخذوا يتحرّكون، ثم إذا أصبحوا رأوا أنّهم في مكانهم الأوّل، وهكذا إذا ساروا صباحاً، وجدوا أنفسهم في الليل في نفس المكان.

وعزم جماعة منهم على الرحيل والرجوع إلى مصر، لكن أنى لهم ذلك، وقد كان المقدّر أن يتيهوا في نفس تلك الأرض. واشتكوا إلى موسى ما يلاقونه في تلك البرية من حر الشمس نهاراً، وبرد الليل والجوع والعطش، فدعا الله موسى (عليه السلام)، فأرسل الله سبحانه قطعة من السحاب كانت تظللهم كل يوم وتقيهم من حر الشمس. كما أن (المنّ) وهو شيء يشبه (الترنجبين) و(السلوى) وهو طير (السّماني) كانا يأتيانهم لأكلهم.

وكان مع موسى حجرٌ يضعه وسط العسكر، فيضربه بعصاه، فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبطٍ من الأسباط نهرٌ خاص به، ليشرب منه الماء ويقضي به حوائجه.

وكانت عصى موسى بالليالي المظلمة تشع لهم، كالمصباح القوي، فيرون الأشياء في نورها.

(وظلّلنا) يا بني إسرائيل (عليكم الغمام) السحاب ليقيكم من حر الشمس، و(أنزلنا عليكم المن والسلوى) لأكلكم ولقنا لكم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم)، (وإذا استسقى) طلب الماء (موسى لقومه) (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) فضرب موسى (عليه السلام) الحجر (فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس) من الأسباط الاثني عشر (مشربهم) وقلنا لهم: (كلوا واشربوا من رزق الله).

* * *

بقي بنو إســرائيل في التيه، أكلهم واحد: (المنّ والسلوى) ولهم ظلّ واحدٌ (الغمام) ولهم ماء واحد هو ما يتفجّر من (الصخرة).

أمّا ماذا كان لباسهم؟ وهل كانت لهم خيامٌ؟ وكيف كان يربّون أولادهم؟ وهل كانوا يقضون الأيام والليالي بالبطالة أو العمل؟ وغير ذلك من الأسئلة، فلا نعلم عنها شيئاً ملموساً لكن من الطبيعي أن يتضجّروا ويملّوا هذه الحياة البدائية الرّتيبة، التي لم تدم يوماً ولا شهراً ولا سنةً وإنما استمرّت أربعين عاماً.

ولعلّ إبقاءهم في التّيه لم يكن صرف عقوبةٍ على عدم إطاعتهم في دخول الأرض المقدسة، بل كان وراء ذلك إرادة تأديبهم ونضجهم، ليصلحوا أن يكونوا حملة رسالة موسى إلى الأمم الآتية، فإن حملة الرسالة لابد لهم من عقل ونضج، لا يتوفران للشخص بسرعة، وإنّما بطول المحنة والتجارب والشدائد.

فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تكون شريعة موسى (عليه السلام) عالميّة في الفترة ما بين موسى وعيسى، حتى إذا جاء المسيح انتقلت الشريعة إليه، في فترة ما بينه وبين رسول الإسلام، حتى إذا جاء محمد (ص) نسخت شريعته الأديان كلّها، ولم يقبل من أحد غير الإسلام إلى يوم القيامة.

وكيفما كان الأمر.. فقد ملّ بنو إسرائيل في التيه الطّعام الواحد، فقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع) واطلب (لنا) من (ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها) الخيار (وفومها) الثوم (وعدسها وبصلها) ولعل هذه المذكورات من باب المثال، بأن طلبوا زرع الأرض على عادتهم حين كانوا في مصر.

(قال) موسى في جوابهم: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)؟ أي أتريدون أن ينقطع عنكم الطير والحلوى الميسوران بلا صعوبة، وتقعون في صعوبة الزرع وما يتبعه؟ لكنهم أصرّوا على وجهة نظرهم.. فقال لهم: (اهبطوا مصراً) من هذه الأمصار التي هي قبل الأرض المقدسة، فإن في أطراف التيه كانت قرى، وكان يتوفر فيها الغذاء وما طلبوه، (فإن لكم ما سألتم) من البقل والقثّاء وغيرهما.

فجعل بنو إسرائيل يرتادون القرى، ويحصلون منها على ما يشتهون من الأطعمة.

* * *

هنالك نفوس شريرة بطبعها، ونفوس طيبة في طينتها، وقد كان بنو إسرائيل من القسم الأول، فقد فضّلهم الله على العالمين، إذ بعث فيهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.

ثم.. نجّاهم من فرعون الطّاغي، وأهلك عدوّهم، وأراهم الآيات البيّنات، لكنهم أبوا إلا تمرّداً وعُتواً، حتى ابتلاهم بالتيه، ولكنّهم (ضربت عليهم الذلّة والمسكنة) فإنّ الإنسان الحريص لابد وان يكون ذليلاً، كما أن الشخص العاتي يلازم المسكنة.. ومن عجيب أمرهم أنهم من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أذلّة مطاردون، لم تستقم لهم دولة، وإذا اغتصبوا مكاناً ـ كفلسطين ـ فإن الاغتصاب إنما يتسنّى لهم بألف تملّق من دول قويّة، وألف بذل لأعراضهم للأعداء، فإن كل واحد يعلم أنهم حصلوا على وعد (بلفور) بإرسال فتياتهم الجميلات إلى الضبّاط والقادة وأهل النفوذ، وهكذا إلى اليوم يجعلون أنفس شيء ـ وهو العرض ـ سبباً لبقاء نفوذهم المزيّف.. ثم بعد ذلك كله، هم في خوف وقلق دائمين من المسلمين الذين أحاطوا بهم، حتى إنهم لا يبرحون السلاح ليل نهار.

وعلى كل حال، فقد ضربت عليهم الذلة الأبدية (وباءوا بغضب من الله) ولعنة الدّهر (ذلك بـ) سبب (أنهم كانوا يكفرون بآيات الله) بأدلته وحججه (ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).

فمثلاً: حين كانوا في (التيه) عجزوا عن الإقامة ولم يقدروا على دخول الأرض المقدسة الموعودة، ولمّا ألحّوا على موسى أن يدخلوا بعض البلاد ليشتروا ويأكلوا كما يريدون أجاز لهم أن يدخلوا بيت المقدس، بشرط أن يسجدوا لله شكراً عند باب المدينة، ويقولوا هذه الكلمة: (حطّة) بمعنى : اللهم حطّ عنا ذنوبنا، لكنهم دخلوا الباب قهقرى ـ استهزاءً ـ وقالوا: (حنطة) عوض (حطة).

(وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا) عند دخول المدينة: (حطّةً وادخلوا الباب سجداً) في حال كونكم ساجدين، خاضعين لله تعالى، فإذا فعلتم ذلك (نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين) (فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم) ولذا نزل عليهم العذاب.

* * *

لم يكن الذين نزلوا التّيه، مع موسى بن عمران (عليه السلام)، قابلين للسيادة والرئاسة، وإدارة شؤون أنفسهم، فإنهم لطول ما استعبدوا في مصر، اعتادوا الذلّة والخنوع، والجبن والإحجام. ولذا لمّا سمح لهم بدخول الأرض المقدسة، خافوا العمالقة، و(قالوا اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون). فإن الإنسان إذا اعتاد على شيء، وتكرّر ذلك الشيء في نفسه، صار ملكةً عنده، لا يزول عنه بسرعة، وهؤلاء اعتادوا أن يكون لهم سيد يسودهم، واعتادوا الخوف والجبن، فلم يصلحوا للسيادة ولم يكونوا شجعاناً.

ولذا كانت مدة مكوثهم في التيه، كفيلةً بانقلابهم ـ بسبب موت الآباء، وخلافة الأبناء ـ فتتحوّل طباعهم بحيث يليقون للسيادة، وتكون فيهم عزيمة الغزو والفتح، وبقوا هناك هذه المدة الطويلة، يرتادون القرى والأرياف حتى مات أكثرهم وجاء مكانهم شعبٌ قويٌ، فيه الجرأة والإقدام، وروح العلوّ والسيادة.

وعندئذ صلحوا لدخول الأرض المقدسة، وأخذوا زمام الأمور بأيديهم.

ومن غريب الأمر أنّ موسى (عليه السلام) وأخاه هارون (عليه السلام) ماتا في ذلك التيه فلم يريا دخول بني إسرائيل الأرض، فيا لحسرة الخلف أن لا يرى القائد معه؟

ثم إن بني إسرائيل عندما كانوا في مصر كانوا تحت نظام فرعون وحكمه، لكنهم لما خرجوا من مصر وسكنوا التيه، كان لابد لهم من نظام ينظم دنياهم، ويكون لهم بمنزلة القانون ونظام آخر لتنظيم أمور دينهم، ويكون لهم الشريعة. ولذا أخذوا يطالبون موسى (عليه السلام) بهذين النظامين.

وحيث إن مثل هذه الأنظمة في شرائع السماء، لابد وان تكون من عند الله تعالى، لأن شرائع الله لا تعترف بالأنظمة الأرضية المحدودة بأفكار الناس.. صار من المقرّر أن يأتي نظام العبادة، ونظام الإدارة من السماء. ولذا رأت صحراء التيه ولادة هذا النظام السماوي المسمّى بـ(التوراة).

* * *

لقد وقع في (التيه) لقوم موسى عدة قضايا مهمة:

منها قصّة (عبادة العجل) فقد وعد موسى قومه أن يأتيهم بكتابٍ فيه نظم أمور دينهم وأمور دنياهم، حسب ما وعده الله سبحانه، فلمّا كانوا في (التيه) طلبوا من موسى إنجاز الوعد.

وقد وعد الله موسى (عليه السلام) أن يأتي إلى الطور، لمدّة ثلاثين يوماً، حتى يعطيه التوراة ولم يكن الوعد أن التوراة تعطى في نهاية ثلاثين يوماً، وإنما كان إعطاء التوراة بعد الموعد ـ في الجملة ـ .

فأخبر موسى بني إسرائيل أنه ذاهب إلى (جبل طور) لتلقّي (التوراة) كما أخبرهم: على أن يبقى ثلاثين يوماً هناك، ولم يخبرهم أنه يأتي مباشرة بعد الثلاثين.

ثم خلّف موسى فيهم أخاه (هارون) (عليه السلام)، وذهب إلى (الميقات). بقي موسى في جبل (طور) (ثلاثين يوماً).

لكن إرادة الله شاءت امتحان (بني إسرائيل) ولذا لم ينزل التوراة في نهاية الثلاثين، وإنما أتمّ الثلاثين بعشرة أخرى، حتى صارت أربعين يوماً.. ثم أعطى (التوراة) في (ألواح) لموسى (عليه السلام).

أما بنو إسرائيل، فإنهم ما كانوا يطيعون هارون لخبثهم، وقد كان هارون (عليه السلام) لين العريكة، يخشى كفرهم وانقلابهم إن شدّد عليهم الأمر.

وهكذا أخذ بنو إسرائيل يجمعون أنفسهم في اجتماعات، للانقلاب، لكنهم كانوا يخشون موسى (عليه السلام)، ولمّا تأخر رجوع موسى اغتنموها فرصة! فتجمهروا أوّلاً، لقتل هارون (عليه السلام)، حتى يخلعوا الشريعة عن أعناقهم، لكنهم لم يتمكنّوا من ذلك، بفضل بعض المخلصين.

ثم.. زاد الأمر انحرافاً، لقد جاءهم (الشيطان) في صورة رجل، وقال لهم إن موسى لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً كذّاباً ـ والعياذ بالله ـ وحيث إنه لا يتمكن من القيام بإدارتكم، فرّ، باسم (الميقات) ولن يرجع إليكم أبداً. فقويت عزيمة بني إسرائيل الأشرار، على أن يخلعوا الشريعة من رقابهم، وأن يرجعوا إلى عبادة غير الله، بما اعتادوا أن يروه في مصر. فقد كانت رواسب الجاهلية الأولى بَعد في نفوسهم.

(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) ولمّا أراد موسى الذهاب إلى (طور) (قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).

* * *

لقد قرّر الأشرار من بني إسرائيل الذين كانوا في التيه ـ بعد غيبة موسى (عليه السلام) ـ أن يصنعوا لأنفسهم إلهاً.. وقد كان في بني إسرائيل رجلٌ من الأخيار اسمه (السّامري) وكان قد رأى يوم خروج بني إسرائيل من مصر ـ عبر البحر ـ جبرئيل (عليه السلام) راكباً على (رمكة) فكان فرس جبرئيل كلّما وضع رجله على موضع، تحرّك ذلك الموضع، كأنه شيء حيّ، فاتّخذ (السامري) ذلك اليوم قسماً من تراب حافر فرس جبرئيل وادّخره لنفسه.

ثمّ.. إن السامري، التفّ حوله القوم، طالبين منه أن يصنع لهم (صنماً) يعبدونه، فقال السامري: علي بالذّهب الذي معكم من الحلي والحلل، فجاءوا إليه بما كان عندهم من الذهب، فأذابه وصنع منه صورة (عجل)، وألقى ذلك التراب في جوفه، فأخذ العجل يخور من أثر تحرّك التراب في جوفه.

وقال لهم: (هذا إلهكم) يا معاشر بني إسرائيل..

وهؤلاء قد علموا فذلكة السامري، لأنهم كانوا رأوا التراب وحركته من قبل، إذ كان السامري يفتخر عليهم بذلك التراب.. لكنهم كانوا يريدون التخلص من الشريعة، وعبادة الله سبحانه، فاتخذوا العجل إلهاً.

سجد سبعون ألف شخص من أولئك الذين كانوا في التيه (للعجل)، وكلما نصحهم (هارون) والخيار من أصحاب موسى (عليه السلام)، لم ينفع فيهم النصح.

وحيث كان موسى (عليه السلام) في الجبل، أوحى إليه الله تعالى بقصّة (السامري) و(العجل) (قال) الله (فإنّا فتنّا) وامتحنّا (قومك من بعدك وأظلّهم السامري) ولمّا انتهى أمد الطور وأخذ موسى الألواح (رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً)؟ كما رأيتم من خلاصكم من فرعون، وإعطائكم الكتاب (أفطال عليكم العهد)؟ حتى عبدتم العجل (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) في بقائكم على الشريعة وإطاعتكم لهارون؟

لكن هل يكون لهم عذرٌ معقول أمام موسى، وما اقترفوه من الإجرام؟

* * *

لم يكن لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، في غياب موسى (عليه السلام)، عذر مشروع، ولذا أخذوا يعتذرون بهذا العذر التّافه (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) ونحن نملك أمرنا، حتى نتمكّن أن نفعل أو ندع (ولكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم) فقد كان عندنا أحمال من ذهب آل فرعون ـ من مصر ـ (فقذفناها) وألقيناها في البوتقة لإذابتها (فكذلك ألقى السامري) الذهب في البوتقة، للإذابة.

(فأخرج) السامري (لهم عجلاً) صغير البقر (جسداً) فلم يكن عجلاً حقيقياً، وإنما تمثال عجلٍ مصنوع من الذهب (له خوار) أي صوتٌ من جرّاء تحرّك التراب الذي اتخذه السامري من تحت حافر فرس جبرئيل ووضعه في داخل العجل (فقالوا) السامري ومن آزره في صنع العجل (هذا) العجل (إلهكم) يا معاشر بني إسرائيل، كما أنه أيضاً (إله موسى فنسي أفلا يرون ألا ترجع إليهم قولاً) فإنه كيف يكون إلهاً ولا يقدر على التكلّم الذي هو أبسط مظاهر الحياة؟ وهل يكون جمادٌ عاجزٌ إلهاً؟ (ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً) فهل يملك الجماد أن يضرّ شخصاً، أو ينفع شخصاً؟

(ولقد قال لهم هارون من قبل) من قبل رجوع موسى (عليه السلام): (يا قوم إنما فتنتم به) فإنه امتحان لكم، ليتبيّن المؤمن حقيقة من المؤمن ظاهراً (وإن ربكم الرحمن) لا هذا العجل، (فاتبعوني) يا قوم (وأطيعوا أمري) في عبادة الله تعالى.

فماذا كان جواب بني إسرائيل لهارون المشفق الناصح؟ (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) فإنا نستمر في عبادة العجل (حتى يرجع إلينا موسى) من الميقات.

هكذا كان موقف بني إسرائيل إزاء العجل.. العبادة والسجدة. وكذلك كان موقف هارون أمام بني إسرائيل.. النصح والإرشاد.. فلم يقبلوا كلامه. فلننظر إلى موقف موسى (عليه السلام) مع أخيه (هارون)؟

لقد غضب موسى على بني إسرائيل أشد الغضب، وأسف لضعف عقولهم أشد الأسف ولذا توجّه أوّلاً إلى أخيه، مظهراً استياءه من القوم على سبيل: إياك أعني واسمعي يا جارة ـ فـ(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن)؟ أي: لماذا لم تتبعني في النهي عن المنكر وعقاب المخالف إذ رأيت بني إسرائيل ضلّوا عن طريق الهدى؟ (أفعصيت أمري)؟ وقد كان هذا سؤال العارف.

* * *

وقد كان أخذ موسى (عليه السلام) برأس هارون ولحيته، إظهاراً لشدّة غضبه على القوم على نحو: (حرب الصّاغة).

فـ(قال) هارون: (يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) حتى يزعم القوم أنك غضبت عليّ، فإني أنكرت عملهم ـ كما تعلم ـ وإنّما لم أنزل العقوبة بهم خشية التفرقة بين كلمة بني إسرائيل، فإنه إذا عنّف الإنسان ببعض جماعته تفرّق الجمع إلى مؤيد ومخالف. فـ(إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي).

* * *

أما موقف موسى من (السامري) ومن (العجل) ومن (بني إسرائيل):

فقد توجه موسى (عليه السلام) إلى (السامري) فـ(قال فما خطبك) وقصتك (يا سامري) كيف صنعت العجل، ولماذا صنعته؟ (قال) السامري: (بصرت) ورأيت (بما لم يبصروا به) من تحرّك التراب تحت حافر فرس جبرئيل يوم غرق فرعون (فقبضت قبضة من) تراب (أثر الرسول) جبرئيل (ع) (فنبذتها) أي جعلتها في جوف العجل.. هذا ما كان من أمر العجل، وأما لماذا صنعت العجل؟ فقد (سوّلت لي نفسي) وزيّنت لي هذا العمل البشع.

عند ذاك (قال) موسى (عليه السلام) للسامري: (فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) قيل ـ في معناه ـ أنّه إذا كان يمسّه أحد، ابتلى السامري والماس بالحمّى فوراً، فكان يقول السامري إذا اقترب من أحد: (لا مساس) أي لا تمسّني، وأخيراً هام على وجهه في البريّة، فرار من ابتلائه بالحمّى، عند اصطكاكه بالآخرين (وإن لك) يا سامريّ (موعداً لن تخلفه) فقد أخّر تعذيبك إلى الآخرة، وإنما لم يعذبه موسى (عليه السلام)، لأنه كان سخياً، فأمهله الله سبحانه، كرامة لهذه الصفة.

وبعد هذا.. وصل الدور إلى (العجل) فقد برده موسى (عليه السلام) بالمبرد، وذرّه في البحر، زيادةً في النكاية بعباده، فإنه من النكاية بالعابد لشيء إهانة معبودِه ـ ولذا تجعل آلهة الكفار حصب جهنم، كما قال سبحانه: (أنتم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم) وعلى هذا خاطب موسى (السامري) قائلاً: (وانظر إلى إلهك) أي العجل (الذي ظللت عليه عاكفاً) تعبده دون الله تعالى (لنحرقنّه) تحريقاً بالنار حتى يذوب (ثم لننسفنّه) بعد أن نحطّمه بالمبرد (في اليم) أي البحر (نسفاً) حتى لا يبقى له أثر أصلاً، فإن العجل ليس إلهاً، (إنما إلهكم) يا بني إسرائيل (الله الذي لا اله إلا هو وحده لا شريك له وسع كل شيء علماً) فإن علمه شامل لكل شيء، وليس العجل الذي لا يعلم أي شيء.

وهكذا صنع موسى (عليه السلام)، فإنه أحرق العجل، ثم حطّمه، ثم نسفه في البحر.

ومن عجيب الأمر: أن جماعةً من الذين عبدوا العجل ممن (أُشرِبوا في قلوبهم العجل) كانوا يلقون أنفسهم في البحر، ليشربوا الماء المخلوط برماد العجل.

وهكذا انتهى أمر (السامري) بالخسران والخيبة والعذاب، وانتهى أمر (العجل) بالحرق والنسف في اليم.

* * *

أما القوم الذين عبدوا العجل.. فقد قرّر الله لهم توبةً فريدةً في نوعها، وهي أن يشهر الجميع ـ العابد للعجل، والساكت عليه ـ سيوفهم، بعضهم على بعض، وهكذا يقتل البعض البعض الآخر حتى يأمرهم موسى بالكفّ عن ذلك، فـ(قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) إلهاً (فتوبوا إلى بارئكم) خالقكم، أي الله سبحانه (فاقتلوا أنفسكم) ليقبل توبتكم بهذا السبب (ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم) لأنه ينجّيكم من العذاب الأبد.

وحيث أنكم فعلتم ما أمرتم (تاب) الله (عليكم إنه هو التواب الرحيم).

فقد وقف بنو إسرائيل صفّين طويلين، شاهرين السيوف، وغشيتهم ظلمة، حتى لا يرى القاتل المقتول فيرق له، وأخذ يقتل بعضهم بعضاً، وموسى وهارون عليهما السلام وقفاً يتضرّعان إلى الله سبحانه، في رفع هذا الحكم، وإنزال التوبة.

حتى ارتفعت الظلمة، ونزلت التوبة، وسرّ الجميع، وبعد ما أحصوا القتلى، انكشف الأمر عن سبعين ألف قتيل!!

يا لدهشة الأمر؟ لعظم الهول؟! لا تكون التوبة إلا هكذا، ولا تنجلي المعركة، إلا بسبعين ألف قتيل؟ ومن القاتل؟ ومن المقتول؟ أبناء وآباء وأقرباء، وإخوان!! كيف كان هذا الحكم! وكيف رضيت نفوس بني إسرائيل بتوبة كهذه.

الأصح أن نقول: العلم عند الله.

لكن من المظنون أن الله سبحانه، قدّر رؤوس الفساد بهذه الكيفية، فإنّ في كل أمة جماعةً لا يزالون يعبثون بمقدّرات الأمة، وينشرون الفساد والضلال، ولا نجاة للأمة في حاضر أمرها، ولا للأجيال الآتية في المستقبل، إلا بالتخلّص من مؤامرات هؤلاء وإفسادهم، أليس من الأحسن أن يقتل سبعون ألفاً لنجاة ملايين من البشر؟

إن من يرى اعتداء (اليهود) على بلاد الإسلام، وغير بلاد الإسلام، ـ هذا اليوم ـ يعرف كيف أن هذا الحكم كان عادلاً! إن اليهود بعد مرور هذه الحقبة الطويلة من الزمن، وتحضرهم، لا يرعوون عن كل فساد وإفساد، وإن كان فيه هلاك العالم، فكيف بذلك اليوم؟ وهم بعد في أول السير نحو الحضارة والمدنية.. وقد كان سبحانه يعلم من يقتل في ذلك اليوم، فلم ينل السيف إلا المستحق.

وكيف كان.. إقدام القاتلين على قتل أقربائهم توبة لهم، كما كان موت المقتولين أيضاً توبةً لهم ـ من غير فرق بين العابد للعجل والساكت عن المنكر، قاتلاً ومقتولاً، فكلّهم كانوا شركاء في الجريمة ـ.

ولكن هل تنتهي عند هذا الحد قصّة بني إسرائيل؟

كلا! إن لهم قصة طويلة، ذات فروع، وكما لا تنتهي القصّة عند هذا الحد، كذلك لا ينتهي تمردهم وعتوّهم عند عبادة العجل، والتوبة على يد موسى.. فإن من جبل على الشر وإن تاب ألف مرة، لا ينتهي غيّه، وبنو إسرائيل وإن كانوا مفضّلين على عالمي زمانهم من جهة، لكنّهم من جهة أخرى كانوا أكثر الأمم شرّاً وفساداً، وكانت فيهم قطاعات كبيرةٌ من أهل الشرّ والفساد، وكيف جمعت فيهم فئة كبيرة من الصالحين حتى يستحقّوا أن يقال عنهم: (فضّلتكم على العالمين) وفئة كبيرة من الأشرار، حتى يستحقوا أن يقال عنهم: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)! فذلك مما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
milagro
milagro
الكليم وبنو إسرائيل

أقام موسى (عليه السلام) في (طور سيناء) وهو جبل كان يناجي الكليم عليه ربه أربعين يوماً صائماً، قائماً، مناجياً ربه.

وبعد تمام الأربعين، أنزل الله عليه الكتاب المقدس (توراة) وقد قال سبحانه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور). وكان هذا الكتاب على ألواحٍ من (زبرجد أخضر) من ألواح الجنة. وفيها أحكام الله سبحانه، التي تنظمّ أمور البشر أمور دينهم، وأمور دنياهم.

وقد كان اللازم على كل البشر، أن يتّبعوا هذا الكتاب المقدس في جميع شؤونهم ـ لأن موسى (عليه السلام) كان مبعوثاً لكل البشر ـ .

وهكذا كان هذا الكتاب هو كتاب الله الذي يجب على الأجيال اللاحقة لموسى (عليه السلام) اتباعه والعمل به، حتى إذا جاء دور المسيح عيسى (عليه السلام)، صار البشر مأمورين باتباعه وكان كتاب المسيح (الإنجيل)، وكان الإنجيل نافذ المفعول، حتى جاء دور نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) فأتى بـ(القرآن الكريم) ناسخاً لما تقدّم من الأحكام، باقياً إلى الأبد، فقال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

لكن اليهود، حرّفوا هذا الكتاب (التوراة) كما قال سبحانه: (يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً مما ذُكّروا به) ولذا ليس (التوراة) الآن هو الصحيح عندهم. والنسخة الأصليّة من (التوراة) التي نزلت من الجنّة، أودعها موسى (عليه السلام) في (بطن الجبل) لمّا حضرته الوفاة ـ وكانت نسخٌ منها بأيدي اليهود. ثمّ حرّفوها ـ فلمّا بعث نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، أظهر الله تلك النسخة الأصلية له، فكانت عنده، ثم أودعها علياً (عليه السلام)، وكذلك انتقلت من كل إمام إلى إمام آخر، وهي موجودة الآن بيد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام).

* * *

لمّا أخذ موسى (عليه السلام) ألواح التوراة، في جبل سيناء، جاء بها إلى بني إسرائيل في (التيه) فلمّا رآهم عبدوا العجل، غضب أشد الغضب، حتى إنه (ألقى الألواح) من يده تضجراً مما فعله اليهود، وإن كان علم بذلك من قبل ـ بوحي الله تعالى ـ لكن الرؤية أثارت موسى (عليه السلام) أكثر من الخبر. (ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون).

ثم انظر إلى عجيب الأمر:

كان بنو إسرائيل هم الذين ألحّوا على موسى (عليه السلام)، بسؤال الله تعالى إنزال كتاب إليهم فيه نظام دينهم ودنياهم، فإنهم ملّوا من عدم النظام الذي كان يسود حياتهم ومن جرّاء الفوضى وعدم وجود منهج لديهم، لكن لمّا جاءهم موسى بالكتاب، بعد تلك المشاكل، لم يقبلوا ذلك الكتاب.

وقد أمرهم موسى (عليه السلام) أن يسجدوا لله شاكرين، دلالة على قبولهم التوراة، لكنهم كرهوا ذلك فلم يسجدوا، فرفع الله قسماً من الجبل، حتى أظلّهم، وقيل لهم: إن لم تسجدوا دلالةً على قبول (التوراة) سقط الجبل عليكم بما فيه هلاككم، فاضطروا إلى السجود، لكن هل خفّف الخوف عنادهم؟ كلا!

إنهم سجدوا بشقّ وجوههم، لا بالجبهة، ينظرون إلى الجبل، هل يذهب إلى مكانه، حتى يرفعوا رؤوسهم، أو يبقى، حتى يبقوا في حالة سجود؟ (وإذ نتقنا الجبل) رفعناه فوق رؤوسهم (كأنه ظلّة) كالسقوف التي تظلّل الإنسان (وظنّوا أنه واقعٌ بهم) فإن قطعة الجبل المعلقة فوق الرؤوس، تلقي في النفس خوف الوقوع فقلنا لهم (خذوا ما آتيناكم) من التوراة (بقوة) في العمل به والالتزام بأوامره (واذكروا ما فيه لعلّكم تتقون). إنهم وعدوا أخذ الكتاب بقوّة، وسجدوا، حتى رجع الجبل إلى مكانه.. لكنهم هل وفوا بما وعدوا؟ كلا!

بل: (ثم تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) وهكذا (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) أخذوها ظاهراً، ولم يعملوا بأحكامها، فكان مثلهم: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) كتباً من العلم، إنها على ظهر الحمار، لكن الحمار لا يستفيد منها أبداً.

* * *

لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) باليهود، ابتلاءً عظيماً، فإنهم في نفس الوقت الذي كانوا يعترفون له بالنبوة، ويرون منه الآيات، لا يصدّقون كلامه، لا خفاءً فحسب، بل كانوا يجهرون بذلك جهراً.

ومن ذلك أنّ موسى (عليه السلام) حين أخبرهم بأن الله سبحانه، يناجيه ويتكلّم معه، أنكر جماعة منهم، وقالوا: إنا لا نصدّق قولك وكيف يمكن أن يتكلّم الله معك؟ ولن نؤمن إلا إذا سمعنا نحن كلام الله، فاذهب بنا إلى الطور، حتى نسمع نحن كما تسمع أنت.

وأجازه الله سبحانه في ذلك.. وقد كان الطالبون لهذا الأمر سبعين ألفاً، فاختار موسى منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) أي الوقت المحدود لسماعهم كلام الله تعالى.

فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى إلى الطور، وسأل الله سبحانه أن يكلّمه ويسمع القوم كلامه، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكلّم موسى، بحيث سمع السبعون كلام الله تعالى.

ولم يكن لكلامه اتجاه خاص ـ كما يكلّم أحدنا صاحبه ـ بل جاء كلامه من فوق ومن تحت، ومن اليمين واليسار، ومن الخلف والأمام، فإنه تعالى لا يتكلّم باللسان، ولا له جهةٌ خاصّةٌ وإنما يلقي الكلام في الفضاء، ولذا يحيط الكلام بالسامع.

ولمّا سمعوا كلامه سبحانه، قالوا: لا نصدّق أن هذا كلام الله، فيجب أن نرى الله عياناً حتى نؤمن بك، وأنّك كليم الله ونبيّه.. وحيث تمّت عليهم الحجة ولم يبق إلا العناد، أرسل الله صاعقة أرجفتهم وأهلكتهم جميعاً.

لكن موسى (عليه السلام)، خاف أن يقول بنو إسرائيل: إنك لم تكن تقدر على إسماعهم كلام الله، ولذا قتلتهم ومن هذه الجهة طلب من الله سبحانه أن يحييهم. فاستجاب الله سبحانه دعاءه وأحيا السبعين، فرجعوا مع موسى (عليه السلام)، وأخبروا بني إسرائيل بالقصة كلّها (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) حين نزول الصاعقة (فلمّا أخذتهم الرجفة) الّتي أحدثتها الصاعقة (قال) موسى: يا (رب) كيف تهلكهم الآن؟ فإن بني إسرائيل يتهمونني بقتلهم، و(لو شئت) إهلاكهم بسبب عنادهم، لكنت (أهلكتهم من قبل وإياي) فإني لا مانع لي من أن تهلكني إذا اقتضت مشيئتك ذلك.

فاستجاب الله دعاء موسى في إحيائكم يا معاشر اليهود (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون) نعمي وآلائي.

ولم يكن كلام موسى (عليه السلام) حول إهلاك الله اليهود اعتراضاً، وإنما ضراعةً ودعاءً. كما أنه سبحانه لم يبد له في إحيائهم ـ بعد أن لم يعلم، تعالى عن ذلك ـ وإنما عاقبهم حسب عصيانهم، ثم أحياهم حسب المصلحة، واستجابة لدعاء نبيه العظيم موسى (عليه السلام)، وليزيد حجّةً على حجة.

ومما يلفت النظر في هذه القصة:

أن موسى (عليه السلام) مع أنه نبي عظيم من أولي العزم وأصوب نظراً من سائر الناس، وأحسن معرفة بالناس.. لم يكن اختياره للسبعين، اختياراً للمؤمن الصامد في إيمانه، ولذا كفروا بالله، وطلبوا المستحيل، بالإضافة إلى كفرهم بموسى (عليه السلام).. فهل بعد هذا يمكن أن يناط اختيار الواسطة بين الله وخلقه إلى الناس؟؟

* * *

قد يستغرب الإنسان إذا رأى العناد من جماعة من الجهلة، لكن المظنون أن يتبخّر كل استغراب في جنب الاستغراب الذي يحصل للإنسان حين يلاحظ أحوال اليهود!

أسمعت كيف طلبوا سماع كلام الله، وإلا رجعوا عن إيمانهم؟ فقبل موسى (عليه السلام) كلامهم، وسمعوا كلام الله.

ثم.. أسمعت: كيف عاندوا، وقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً)؟ فأخذتهم الصاعقة، لتمرّدهم وعصيانهم، واحترقوا.

ثم.. أسمعت: كيف طلب موسى (عليه السلام) أن يحييهم الله تعالى، فاستجاب الله له؟

فاسمع الغريب العجيب الآن!:

إن (السبعين نفراً) الذين بعثوا بعد الموت، بدعاء الكليم (عليه السلام)، لم ينفكّوا عن عنادهم وتماديهم في الغيّ، فإنهم لمّا أحياهم الله تعالى، قالوا لموسى (عليه السلام): إنك لو سألت الله أن تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو؟ فنعرفه حق معرفته.

فأجابهم موسى (عليه السلام): بأن الله سبحانه لا يمكن أن يراه أحد ـ فإنه ليس بجسم وما أشبه الجسم، حتى يقبل الرؤية ـ .

لكن بني إسرائيل أصرّوا على كلامهم، ووقفوا إيمانهم على سؤال موسى (عليه السلام) ربّه. فاضطرّ النبي العظيم لتلبية طلبهم حرصاً على إيمانهم، ولمصلحة أن يسمع الجواب: بالنفي.. فيعرف بنو إسرائيل عدم الإمكان، من كلام الله تعالى. ولذا قال موسى (عليه السلام): (ربِّ أرني أنظر إليك).

ويا لهول المطلب، حين سأل موسى (عليه السلام) هذا السؤال؟ فقد أحاط بموسى (عليه السلام) نارٌ من جوانبه، وظهرت له أفواج الملائكة، تهبط من أبواب السماء، عــلى أيديهم العمد في رأسها النور، يمرّون به، قائلين: يا بن عمران سألت عظيما!!

ولعل ذلك كلّه كان، حتى يحكي موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل، فيعرفوا الغلطة الكبيرة التي ارتكبوها.. أو كانوا يرون هذه الأحداث حين صارت.

* * *

وكيف كان الأمر. فقد أجاب الله تعالى عن سؤال موسى (عليه السلام)، بقوله: (لن تراني) لا في الدنيا ولا في الآخرة (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) لكن استقرار الجبل حين إرادة الله سبحانه زواله عن مقرّه، مستحيل، فرؤيته تعالى مستحيل.. ثم إن الله تعالى (تجلّى للجبل) بأن أظهر عليه أثر قدرته وإرادته بتحطيم الجبل (فلمّا تجلّى ربه للجبل جعله) أي جعل الجبل (دكاً) محطّماً (وخرّ) أي سقط (موسى صعقاً) قد أخذتــه الغشوة، من هول ما رأى عند اندكاك الجبل (فلمّا أفاق) موسى من غشوته (قال سبحانك) اللهم (تبت إليك) أي أني راجع إليك في وصفك وأمرك، لا اطلب منك ما لا يكون، وإنما كان سؤال لأجل هؤلاء السبعين ـ كما تعلم ـ (وأنا أوّل المؤمنين) بك وبصفاتك، بأنّك لا ترى أبداً.

فـ(قال) الله سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك) واخترتك (على الناس برسالاتي) حيث جعلتك رسولاً (وبكلامي) حيث تكلّمت معك (فخذ ما آتيتك) من الأحكام والألواح (وكن من الشاكرين) لنعمائي.

(وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء) فإن الصفة العامّة لكتب السماء أن تشتمل على الخطوط العريضة، والقواعد العامّة، وللحياة السعيدة، لا بصورة الإجمال والاحتمال، بل بصورة التفصيل.. ولذا ورد في وصف القرآن (رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ـ على تفسير (الكتاب المبين) بالقرآن ـ .

(فخذها بقوّة) بالعمل بكل صمود واستمرار (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) بالإتيان بالأحسن من مصاديق كلّ أمرٍ ـ مثلاً: الصلاة مع حضور القلب أحسن أنواع الصلاة، فإذا أمرنا بالصلاة.. أتينا بالقسم الأحسن منها: أي مع حضور القلب.. أمّا الذين يخالفون الأوامر ولا يأخذون بأحكام التوراة، فجزاؤهم غداً العقاب والنكال، و(سأريكم دار الفاسقين) الخارجين عن إطاعتي.

* * *

لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل عظيماً، حتى إن أقرباءه ما كانوا يطيعون أمره ولا ينفّذون أوامر الله سبحانه التي يأتي بها موسى بن عمران. فقد كان (قارون) من أقرباء موسى (عليه السلام)، وكان له صوتٌ حسن، فيقرأ التوراة، قراءة حسنة، وكان يعرف (الكيمياء) وبذلك زادت أمواله زيادةً مدهشة، وكان موسى (عليه السلام) يحبّه لقرابته ودينه وجودة قراءته لكتاب الله.

لكن الشيطان لم يزل يغويه ويزيّن له، حتى أوقعه في الكبر والطغيان، كما قال سبحان: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

وفي حين كان بنو إسرائيل في التيه، أمرهم موسى (عليه السلام) بالضراعة إلى الله تعالى، لعلّه سبحانه يستجيب دعاءهم، فينقذهم من البلاء الذي وقعوا فيه بعصيانهم، فقبلت بنو إسرائيل كلام موسى، وأخذوا في الضراعة والابتهال، لكنّ قارون لم يحضر.. وأمره موسى بذلك فأبى.

وفي بعض الآثار: إن موسى أمره بإعطاء الزكاة عن أمواله، فأبى ولم يقبل.

وزاد الأمر إعضالاً، أنّه أخذ يتكبّر على بني إسرائيل بماله وجماله وصورته فكان يخرج عليهم في زينة بين خدمٍ وغلمان، استطالةً وتكبراً. ولم تنفع فيه موعظة موسى (عليه السلام).

بل سبّب ذلك حقداً على الكليم، وراح يبغي له الغوائل، حتى ورد في بعض الآثار: أنه حرّض امرأة مومس بالمال على أن تقف على رأس موسى (عليه السلام)، حين يكون مشتغلاً بوعظ بني إسرائيل فتنسب إلى موسى أنه أراد الزنا بها، وجعل لها من المال مائة ألف درهم إن فعلت ذلك.. لكنّ المرأة كانت أنظف قلباً من قارون، فحين كان موسى (عليه السلام) بين بني إسرائيل جاءت حتى وقفت على رؤوسهم، ثمّ قالت:

يا موسى! إنّ قارون أعطاني مائة ألف درهم، على أن أقول بين بني إسرائيل ـ على رؤوس الأشهاد ـ إنك دعوتني إلى نفسك.. ثم أردفت كلامها قائلة: إنك يا موسى أجل من ذلك، معاذ الله أن تكون دعوتني، فلقد أكرمك الله عن ذلك.

وكيف كان الأمر، فقد اشتد غضب موسى (عليه السلام)، على قارون، ودعا الله أن يستجيب دعاءه في تعذيب قارون. فدخل على قارون في داره، حيث مقرّه، ومحلّ خزائنه وكنوزه، فلمّا رآه قارون عرف آثار الغضب على وجهه، وكيف لا يغضب على من تجبّر واستكبر، وبدل نعمة الله كفراً، وقطع رحمه، فقد أمر قارون ـ استهزاءً بموسى (عليه السلام) ـ بعض خدمه بأن يصب على رأس موسى طبقاً من رماد!!

قال (قارون) لمّا رأى غضب موسى وكان يعرف أنّه (عليه السلام) قادر على الانتقام منه:

أسألك يا موسى بالرحم التي بيني وبينك إلا كففت عنّي؟ لكن الأمر كان قد انتهى، وكان الطلب في غير أوانه (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا).

قال موسى للأرض: خذيه وكنوزه، فأخذته الأرض إلى ركبتَيه. وأخذ قارون يضرع، وموسى (عليه السلام) يكرّر للأرض الأمر بأخذه. حتى انخسفت الأرض به وبداره وبما عنده من كنوز وأموال.

فلم يبق منه باقية، وانتهى كل شيء، فقد التحق هذا الطاغي الجديد، بالطاغي القديم (فرعون) وزادت في التاريخ عبرة وعظة جديدة لمن يطغى ويتكبّر، كيف يكون مصيره؟

وهنا تبين للذين كانوا يتمنون أن يكون لهم أموال مثل أموال قارون، أن الأفضل عدم مثل هذا المال الموجب للطغيان والخسران.

* * *

(إن قارون كان من قوم موسى) والمؤمنين به (فبغى) قارون (عليهم) أي على موسى (و) قد (آتيناه) أعطيناه (من الكنوز) والخزائن (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) فجماعةٌ كبيرةٌ ـ حتى قيل أنّهم كانوا بين عشرة وخمسة عشر ـ ما كانوا يتمكنون من حمل مفاتيح خزائنه بيسر، فقد كانت المفاتيح ثقيلة، فكم كانت الأموال الموجودة في الكنوز؟؟

(إذ قال له) أي لقارون (قومه) المؤمنون (لا تفرح) بهذه الأموال، فإن المال مظنّة الإهلاك إذ قلّما صار الإنسان ذا مال، ووفى حق الله فيه (إن الله لا يجب الفرحين) بالأمور الدنيوية التي لا ترتبط بالله سبحانه، فإنه سبحانه يحب الإنسان الذي يحب الله تعالى.

ثم قال بنو إسرائيل لقارون: (وابتغ) أي اطلب (فيما آتاك الله) من الأموال (الدار الآخرة) بالإنفاق من مالك في سبيل الله (ولا تنس نصيبك من الدنيا) فلست مأموراً بإعطاء كل ما لك لله، بل أعط قسماً لآخرتك، وأبق قسماً لدنياك، فإنه ليس من الله من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته (ولا تبغ الفساد في الأرض) لا تطلب العناد، بمنع الحقوق والتكبّر وما أشبه (إن الله لا يحب المفسدين).

لم يرق كلام الناصحين لقارون، وهل يقبل المتكبّر المتعالي النصح؟

فأجاب القوم قائلاً: إنه ليس لأحد حق في هذه الأموال التي تحت يديّ (قال إنما أوتيته على علم عندي) فأنا بعلمي حصّلت هذه الأموال، لا بمشورة الآخرين، حتى يكون لهم حقٌ في مالي (أو لم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون) والأجيال (من هو أشد منه) أي من قارون (قوّة وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون)؟ فإن المجرم في كل جيل يهلك بدون أن يحاكم في هذه الدنيا، وإنما محاكمته يوم القيامة.. ألم يعلم قارون هلاك المتكبرين من قبله، فكيف يأمن من الله تعالى؟

إنه لم يكف عن كبريائه، بل (خرج على قومه في زينته) وأبهته وفخفخته، استطالة عليهم، وتكبّراً وعناداً، فلمّا نظر إلى كوكبته القوم (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) بدون التفات إلى الآخرة: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظّ عظيم)؟ لكن عقلاء القوم، ردّوا الذين تمنّوا هذا التمنّي، قائلين: (ويلكم ثواب الله خيرٌ) من هذه الأموال (لمن آمن) بالله ورسله وما جاءوا به (وعمل صالحاً) بإطاعة أوامر الله والانتهاء عن نواهيه (ولا يلقّاها) أي لا يدرك ذلك الثواب (إلا الصابرون) الذين صبروا على طاعته سبحانه، ورضوا بقضائه.

فلننظر عاقبة (قارون) وما جرّته إليه أمواله، وكبرياؤه (فخسفنا به وبداره الأرض) إذ ساخت الأرض بقارون وداره، التي فيها خزائنه (فما كان له من فئة) جماعة (ينصرونه من دون الله) فهل يتمكن أحد أن ينصر من أراد الله عقابه؟ (وما كان من المنتصرين) هذه حالة قارون المتكبر، وخزائنه التي منع حقها.. فما كان موقف أولئك الذين تمنّوا مكانه، من هذه الحادثة؟

(وأصبح الذين تمنّوا مكانه) أي مكان قارون، بأن يكون لهم مثل ما لقارون (بالأمس يقولون وي) عجباً (كأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي يوسّع ويضيّق سب حكمته البالغة، وإنما لم يوسّع علينا علماً منه بأن التوسعة مصيرها مصير قارون وأمواله (لولا أن مَنّ الله علينا) بعدم إعطائنا مثل مال قارون (لخسف بنا وي) عجباً (كأنه لا يفلح الكافرون) بأمر الله سبحانه. وإلى هنا تنتهي قصّة (قارون) وتبقى عبرة للأثرياء والمتكبّرين إلى يوم القيامة.

* * *

وقعت في زمان موسى (عليه السلام) قصّة طريفةٌ، في بني إسرائيل، وذلك أن رجلاً قتل ابن عمّ له. لتنازع وقع بينهما على امرأة، ثم جاء القاتل بالمقتول إلى موسى (عليه السلام) قائلاً: إنه ابن عمّي مقتولاً، فاطلب قاتله؟

فأوحى الله تعالى إلى موسى يأمرهم أن يذبحوا بقرةً، ويضربوا المقتول ببعض تلك البقرة، فعلوا ذلك فأحيا الله المقتول، فأخبر بأن قاتله هو ابن عمّه، الذي جاء به مكراً وخداعاً، فقتله موسى (عليه السلام)، قصاصاً، فقد كان رجل من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة، فرغبوا فيه، وخطبها في نفس الوقت ابن عمّ لذلك الرجل، وكان فاسقاً، فرغبوا عنه، وأخيراً زوّجت المرأة للخير، فحسده ابن عمّه وحقد عليه، فاختفى في طريقه، ولمّا أن مرّ الخير، قتله الفاسق غيلةً.. ثم حمله إلى موسى (عليه السلام)، قائلاً: هذا ابن عمّي قد قتل ـ وأراد بذلك أخذ ديته أيضاً ـ .

فاجتمع بنو إسرائيل عند موسى لفصل القصّة.. وصادف هذا الحادث، أمر ولد بارٌ بأبيه، كانت له سلعةٌ، وأراد بيعها، وكان في غرفة مقفلة، والمفتاح تحت راس أبيه النائم، لكن الولد كره أو يوقظ الأب لأجل ربح السلعة وردّ المشتري.. فلمّا استيقظ الأب، وعرف ما عمله الولد، أعطاه بقرة كانت له جزاء لبرّه وحسن أدبه.

لقد شكر الله للولد برّه بأبيه، فأوحى إلى موسى (عليه السلام)، بشراء بقرةٍ لها علامات مخصوصة، وكانت تلك العلامات منحصرة في بقرة الولد، فلمّا