الامن الفكري موضوع طويل بس يستااهل !!!!!!

الملتقى العام

ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع والأمن المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض من 21/2 حتى 24/2 من عام 1425هـ :
د / عادل بن علي الشدي – جامعة الملك سعود
الجلسة الثانية/ الاثنين 22/2/1425هـ الساعة 10.45 صباحا
الدور الأمني للمسجد
رئيـــس الجلســــــة
معالي الشيخ الأستاذ الدكتور
أحمد بن علي سير المباركي
عضو هيئة كبار العلماء
وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الورقة الأولى

مدخل :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خيرته من خلقه ومن لا نبي بعده أما بعد .
أبدأ هذه الورقة بسؤال في غاية الأهمية :

هل يمكن أن يتحقق الأمن المحسوس لمجتمع ما دون وجود أمن فكري يستظل أفراده بظلاله ويكون سبباً رئيساً لحلول الأمن بمعناه الشامل ؟

الجواب بالنفي طبعاً ومن هنا فإن من أبرز المعوقات التي تحد من الدور الأمني الشامل لمؤسسات المجتمع المختلفة عدم الاهتمام الكافي بحماية الأمن الفكري .

ولقد أثبتت أحداث التفجير في مدينة الرياض وما صاحبها من تعقب ومطاردة أن البعض وإن كانوا قلة يسعون إلى الإخلال المحسوس بأمن المجتمع وإشاعة الفوضى والاضطراب بين أفراده وسلبهم هذه النعمة التي ظلوا يرفلون فيها عقوداً متوالية .

وفي حقيقة الأمر فإن الأمن كلٌ لا يتجزأ وقد سبق محاولة الإخلال بالأمن الحسي إخلال بالأمن الفكري للمجتمع ومع ذلك فإن الجهود المبذولة لحمايته لا تزال أقل من الدرجة المقبولة بل وتتضاءل عند البعض إلى درجة الصفر أحياناً مع أننا في أمس الحاجة إلى الأمن الفكري الذي جاء الإسلام ليحفظه على المسلمين فإن الدين قول وعمل واعتقاد ، والاعتقاد محله القلب والفكر ومن هذا المنطلق جاءت الورقة لتناقش أربعة محاور ، وتجيب عن أربعة أسئلة .
أولها : ما هو التأصيل الشرعي للأمن الفكري ؟
الثاني : ما هو دور الدولة السعودية في حماية الأمن الفكري ؟
الثالث: ماذا عن الواقع الراهن للأمن الفكري في بلادنا وهل هو على ما يرام ؟
الرابع : ما هي وسائل حماية أمننا الفكري ؟
سائلاً الله التوفيق والإعانة وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص في القول والعمل .


المحور الأول
التأصيل الشرعي للأمن الفكري في الإسلام

جاء الإسلام ليحفظ على الناس ضرورات خمس هي مقاصد الشريعة ، أولها وأهمها : ضرورة الدين فكل اعتداء على الدين قولاً أو فعلاً فإن الشريعة الإسلامية تحرّمه وتمنع منه ، ويشمل ذلك الاعتداء على عقائد الناس ومحاولة تغييرها والإخلال بأمنهم الفكري والسعي في انحراف الفكر ولا سيما عند الشباب ، ويستطيع الباحث أن يلاحظ صيانة الإسلام للأمن الفكري على مستويين :

أولهما : داخل المجتمع المسلم :
ومما يؤكد ذلك :
(1) توحيد مصدر التلقي في العقائد والعبادات والقضايا الكبرى في حياة المسلمين : ومن شواهد ذلك غضب النبي rحين رأى مع عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ، وقوله له " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ، والله لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " (1) .

(2) النهي عن الابتداع في الدين : لأن الأمن الفكري يضطرب إذا انتشرت البدع التي مردّها إلى استحسان العقول لا اتباع النصوص ، ومن هنا فإن بدعة الخوارج في التكفير بالمعاصي (2) تناقض بدعة المرجئة في اعتبار صاحب الكبير كامل الإيمان (3) وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وقد قال r ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) (4)، وقال r ( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ..... الحديث ) (5) .

(3) تحريم الإفتاء بغير علم : فالفتوى توقيع من المفتي بالحكم الشرعي في قضية ما ، وتوسيع دائرة الفتيا لتشمل من لم يتأهل لها يوقع المجتمع في الفوضى الفكرية في مواجهة سيل الفتاوى ، فليس كل من فُتح عليه في باب الخطابة أو الوعظ أو التربية أو الزهد مؤهلاً للإفتاء ، ولا سيما في النوازل وتدافع الصحابة للفتيا معروف(6) مع علمهم وتأهلهم فكيف بمن يقول على الله بغير علم ، قال تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) (7) ، وتحريم الحلال على الناس مثل تحليل الحرام لهم إن لم يكن أشد عند الله (8) قال تعالى : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) (9).

ثانياً : في العلاقة مع الآخر من غير المسلمين :
حيث رسم الإسلام دائرتين لصيانة الأمن الفكري إحداهما أكثر ضيقاً من الأخرى ، تختص الأولى بالعلاقة مع المشركين فلا التقاء حينئذ في مجال الثقافة والفكر كما قال تعالى:
( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ـ إلى قوله تعالى ..لكم دينكم ولي دين )(10)

والثانية وهي الأكثر اتساعاً تختص بالعلاقة مع أهل الكتاب، وتتمثل في الدعوة إلى الالتقاء على قاسم مشترك يجمع المسلمين بهم يتمثل في توحيد الخالق وعبادته وحده وقد بينه الله تعالى في قوله: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (11).
ويغفل البعض عن كون المعاملات الاجتماعية العادية خارج هذه الدائرة فقد أباح الله للمسلم الزواج بالكتابية فقال: ( والمحصنات من الذين أوتو الكتاب ) (12) وأكل ذبائح أهل الكتاب فقال : ( وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم ) (13)، وقد توفى رسول الله r ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه منه (14) وقد عاد r غلاماً يهودياًّ كان يخدمه (15) وهذا تطبيق نبوي لأصول العلاقة مع الآخر ( اليهودي والنصراني ) في ضوء قوله تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين ) (16).

المبحث الأول
الأمن ضرورة دينية
إن الأمن في الأوطان من أعظم النعم التي تفضل الله Uبها على بني الإنسان ، ويحسن بنا ونحن نتحدث عن الأمن أن نقوم بتوضيح هذا المعنى السامي في لغة العرب .
قال ابن منظور : ( والأمن ضد الخوف ، فأما آمَنْتُه المُتَعَدِّي فهو ضد أخَفْتُه وفي التنزيل : ] وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء... وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ... وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
(1) سورة قريش آية (4)

(2) سورة البقرة آية (125)

(3) سورة التين آية(3)

(4) لسان العرب 1/222 ، 223

(5) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في الزهادة في الدنيا 4/5

(1) أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم 7/82

(2) سورة الذاريات آية (56)

(3) سورة التوبة آية (122)

(1) سورة النحل آية (125)

(2) شرح سنن النسائي 7/82

(3) أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم 7/ 82

(4) الأوداج هي عروق تقتنف الحلقوم فإذا فصد ودج . وقيل الأوداج ما أحاط من العروق ، والودج ما أحاط بالعنق التي يقطعها الذابح ، انظر: النهاية في غريب الحديث 5/165 ، ولسان العرب 15/247

(5) أخرجه النسائي في الموضوع السابق 7/84

(6) أخرجه النسائي في الموضوع السابق 7/87

(1) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق باب المهدية لمن عرس 6/137 .

(2) مسند الإمام أحمد 5/411

(1) جامع الترمذي 5/380

(2) المرجع السابق 5/380

(1) سورة الزخرف :الآيتان ( 43-44)

(2) سورة الأنبياء : الآية (10)

(3) سورة الأعراف : الآية (170)

(4) تفسير القرآن العظيم 4/128

(5) سنن الدرامي 2/308

(1) جامع الترمذي 4/245

(2) سنن الدرامي 2/310

(3) صحيح مسلم 4/44043

(1) سورة آل عمران : الآية (55)

(2) انظر : مفتريات على الإسلام من 13-34

(3) سورة الحجر : الآية (9)

(1) سنن أبو داود 4/201

(2) سورة النجم : الآيتان (3-4)

(3) مفتريات على الإسلام من 35-48

(1) انظر : محاولة التشويه في كتاب الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام من بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي من ص 25-50

(2) سورة آل عمران : الآية (110)

(3) تفسير ابن كثير 1/391

(4) سورة آل عمران : الآية (104)

(5) سورة الأعراف : الآية (199)

(1) في ظلال القرآن 1/447

(2) صحيح مسلم 1/69 حديث رقم (78)

(3) صحيح البخاري 3/225 باب القرعة في المشكلات حديث رقم (2686) ، وجامع الترمذي 3/ 218 حديث رمق (2264)

(1) مخرت السفينة ، تمخر مخراً ، ومخوراً ، جرت تشق الماء مع صوت ، وقيل استقبلت الريح في جريتها ، فهي ماخرة وخرت السفينة مخراً ، إذا استقبلت بها الريح ، وفي التنزيل : ( وترى الفلك فيه مواخر ، ويعني جواري .

(2) جامع الترمذي 3/317 حديث رقم( 2259) ، وقال حديث حسن

(3) سورة المائدة : الآية (78-79)

(1) جامع الترمذي 4/318 حديث رقم (5038) ، وقال حديث حسن غريب .

(2) سورة محمد : الآية (25-26)

(3) سورة المائدة : الآية (51)

(4) سورة المائدة : الآية (48)

(1) سورة المائدة : الآية (49)

(2) سنن أبي داود كتاب لباس الشهرة 2/367

(3) مسند الإمام احمد 2/338

(4) جامع الترمذي 4/155 ، وقال حديث غريب .

(1) سورة الحجرات : الآية (6)

(1) أخرجه الحاكم المستدرك كتاب معرفة الصحابة 4/74

(2) المصدر السابق الموضع السابق 4/75


المحور الثاني
جهود المملكة في حماية الأمن الفكري
الناظر في التجربة السعودية من بدايتها وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م يلحظ التميز المبهر في صيانة الأمن الفكري داخل المجتمع السعودي وبغض النظر عن اختلاف البعض من خارج هذا المجتمع مع الفكر الذي صانته هذه البلاد فإن الجميع يكاد يتفق على نجاحها في صيانته ورعايته .
والسؤال هو : لماذا نتحدث الآن عن تميز بلادنا في هذا المجال خصوصاً وأن البعض يرى ذلك نوعاً من مدح الذات وإطراء النفس وهو الأمر الممجوج الذي بالكاد بدأنا نتخلص منه في صحافتنا وإعلامنا ، الجواب أننا نتحدث عن تميز المملكة بصيانة الأمن الفكري لأسباب منها :
أولاً : إحداث التوازن في التقييم فقد هبت عاصفة النقد الذاتي الذي يصل أحياناً إلى حد جلد الذات وإلى خلط القضايا واعتبار المحاسن عيوباً في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة دون النظر إلى الإيجابيات جنباً إلى جنب مع السلبيات والأخطاء .
ثانياً : لتعزيز الجوانب الإيجابية والثبات عليها وقد أثبتت الدراسات الحديثة أهمية جانب التعزيز في تثبيت الصفات المرغوبة والخصال الإيجابية .
ثالثاً : نتحدث عن تميزنا في مجال رعاية الأمن الفكري ، لأنه نعمة من نعم الله فمن شكر النعمة التحدث بها قال تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) (17) وقال ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ) (18)
ولقد تمت رعاية هذا الأمن الفكري من خلال عدة وسائل بعد توفيق الله عز وجل من أهمها :
(1) مناهج التعليم : الحافلة بما يربي الطالب على التوازن والوسطية واتباع الدليل وترك الافتراق والأهواء والبدع المحدثة ، وقد صانت هذه المناهج ـ وطيلة عقود متوالية ـ أفكار أبناء المجتمع السعودي عن الغلو والجفاء حتى ظهرت مؤخراً قلة نادرة تأثرت بعوامل ليست مناهج التعليم من ضمنها فانحرفت عن الجادة وسلكت سبيل الغلو والإفراط .
(2) توحيد المرجعية الدينية في الفتوى : ولا سيما في النوازل الكبار فالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والتي يرأسها المفتي العام للبلاد تنظر في القضايا والنوازل وتفتي الناس فيها وتتحقق من تأهيل من يتصدرون للإفتاء في أمور الناس المختلفة، كما أن وجود هيئة كبار العلماء وقيامها بدورها الحقيقي كان صمام أمان للأمن الفكري ، وقد لاحظ الجميع في السابق كيف كان توحيد المرجعية الدينية سبباً ـ بإذن الله ـ في حماية الأمن الفكري للمجتمع أمام أحداث خطيرة مرت بها البلاد ، ومنها فتنة احتلال الحرم عام 1400هـ واحتلال الكويت عام 1410هـ وما تبعها من مجيء القوات الأجنبية إلى بلاد المسلمين .
(3) وجود المفاخر الثلاث في السعودية : وهي ليست مبانٍ شاهقة بل معانٍ ناطقة غير موجودة في أي بلد من بلدان المسلمين اليوم وأعني بها :
ـ القضاء الشرعي الذي يشرف علية مجلس القضاء الأعلى ويتحاكم إليه الناس في أمور الدماء والأعراض والأموال.
ـ والرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي المعبرة عن الجانب العملي في مجال الأمن الفكري في المجتمع بل إن وجودها يعني بالضرورة تهافت حجة من يريد تغيير ما يظنه منكراً بنفسه ؛ لأن هذا الجهاز قائم بدوره وهو القناة الشرعية التي يمر تغيير المنكر من خلالها .
ـ والمفخرة الثالثة تتمثل في مكاتب الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات المنتشرة في طول البلاد وعرضها تدعو غير المسلمين إلى الإسلام بالحسنى ، وترشد المسلمين إلى زيادة التمسك بدينهم عبر برامج متوازنة يتم الإشراف عليها من قبل وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ووجود هذه المكاتب الدعوية يقطع حجة من يريد التصدي للدعوة بغير علم ولا بصيرة .
ولقد أسهمت هذه المفاخر مجتمعة مع بقية العوامل السابقة في رعاية الأمن الفكري وقلة تأثر السعودية بالتيارات الفكرية المنحرفة والتناغم الواضح بين معظم شرائح المجتمع في حين كانت الكثير من البلاد العربية والإسلامية الرئيسية تعاني من هذه التيارات ويمكن اعتبار ( مصر والجزائر والباكستان ولبنان ) نموذجاً في هذا الصدد .
المحور الثالث
نظرة إلى الواقع الراهن للأمن الفكري في بلادنا
كان حديثنا في المحور السابق عن تميز التجربة السعودية فيما مضى بحماية الأمن الفكري وصيانته ، ولكن الزمن اليوم تغير كثيراً عن ذي قبل مما جعل الأمن الفكري مهدداً بل وبعبارة أشد صراحة وإيلاماً مخترقاً لأسباب متعددة منها :
(1) ترك المرجعية الدينية في مجال الفتوى : فأصبحت نسبة لا يستهان بها من الشباب عازفة عن مشائخ البلاد الكبار زاهدة فيما عندهم ووجدت أو أوجدت فجوة بينهم وبين علمائهم في مخالفة مؤذنة بالخطر لقوله تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (19)، ومع تسليمنا بوجود الفجوات بين الأجيال وبكون الفئة العمرية الأقل من 25 سنة تزيد عن 60% من أفراد المجتمع السعودي إلا أن هذا يفسِّر ولا يبرر ما يحصل الآن من فجوة خطيرة بين العلماء والشباب مما يدفعنا إلى توجيه النداء الجاد لعلمائنا الكبار بزيادة فتح عقولهم وقلوبهم لهؤلاء الشباب والنزول إلى مستوى إدراكهم وواقعهم واتباع سياسة الأبواب المفتوحة في مواعيد ثابتة ومعروفة للالتقاء بالشباب وغيرهم.
(2) طوفان البث الفضائي المرئي والمسموع وظهور شبكة الإنترنت : بما فيها من السلبيات والإيجابيات مما جعل مصادر التلقي في مجال الفكر والتربية متعددة ومتنوعة ولم تعد محصورة في المدرسة والمسجد والأسرة ، وقد حمل هذا الطوفان غثاًّ كثيراً وثميناً قليلاً ، إضافة إلى تسويق الانحرافات السلوكية والأخلاقية التي جعلت تيار الوسط يفقد كثيراً من سالكيه لصالح تيار الجفاء والتفريط في ثوابت الفكر والخلق في أكثر الأحيان أو تيار الغلو والإفراط في أحيان أقل لكنها أخطر كردة فعل خاطئة لما يشاهده عبر هذه الوسائل ، ولصغر السن والعجز عن تحمل المفارقة بين ما يراه في الواقع وبين المثُل التي يتعلمها .
(3) محاولة البعض تغيير الخطاب الديني : فبعد أن كان التوازن هو سمته الظاهرة سعى البعض إلى تغليب جانب الشحن العاطفي على حساب الجانب العلمي العقلي من الخطاب الديني وتم التركيز على أفضل ما في الماضي وأسوأ ما في الحاضر مما أشاع جواًّ من اليأس والإحباط والرغبة في إحداث التغيير بطرق بائسة يائسة، وفي هذا السياق نفهم لماذا تم التركيز على تفرق المسلمين واختلافهم واحتلال أجزاء مهمة من أراضيهم والفساد الأخلاقي والاستبداد السياسي في معظم بلاد المسلمين اليوم مع استدعاء صورة تاريخية تمثل أفضل ما في الماضي الذي تلا عصر الخلفاء الراشدين من حيث وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم وهيبتهم بين الأمم وريادتهم في المجالات المختلفة واتساع رقعة الفتوحات الإسلامية .
ولو تم عكس الصورة بالتركيز على أسوأ ما في الماضي وأعني به ما بعد عصر الخلفاء الراشدين وأفضل ما في الحاضر ،لحصل العكس حين نلقي الضوء على الاستبداد السياسي لدى كثير من خلفاء بني أمية وبني العباس وبني عثمان وقمع المعارضين مهما كانت مكانتهم الدينية والاجتماعية ( قتل الحسين (20) وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما نموذجاً) (21) وعدم اعتبار مكانة العلماء بل وإهانتهم ( محنة الإمام أحمد بن حنبل (22) وموت ابن تيمية (23) في السجن نموذجاً ) واستئثار الخلفاء ببيت مال المسلمين ، إلى غير ذلك مما يعتبر من المعالم السيئة للتاريخ الإسلامي وبإزاء ذلك يتم استدعاء بعض الصور المشرفة من الحاضر كقيام دولة تحكم بكتاب الله وسنة رسوله r في الجملة وتتحاكم إلى الشريعة الإسلامية في الدماء والأموال والأعراض وخدمة القرآن ونشره وترجمات معانيه بشكل لم يسبق لـه مثيل في تاريخ المسلمين (24) ، وتوسعة الحرمين الشريفين وخدمتهما وتسهيل الوصول إليهما بما لم يحصل قبل ذلك في تاريخ الخلفاء (25) ، ونشر العلم الشرعي عبر المدارس والجامعات في الداخل والمعاهد والملتقيات في الخارج ودعم المسلمين بالمنح والهبات الهادفة إلى تحسين أوضاعهم وسد حاجتهم ، ترى كيف سيكون وضع كثير من الشباب حين يتلقون خطابهم الديني بهذا الشكل المعاكس للخطاب الديني المركز على أسوء ما في الحاضر وأفضل ما في الماضي ، والمطلوب هو التوازن وعدم الاندفاع خلف العواطف والشحن المؤذن بالانفجار .
(4) عدم رد المتنازع فيه إلى الثوابت الدينية المتفق عليها : وهذا الخلل الفكري أدى إلى اختلاف الرؤى والتوجهات سواء من قبل أهل الغلو والإفراط أو من قبل أهل الجفاء عن الدين والتفريط فيه ؛لأن كل واحد من الطرفين احتكم إلى عقله وهواه وما يراه صواباً دون رجوع إلى الثوابت وهي نصوص الكتاب والسنة على وفق فهم السلف الصالح وقد قال تعالى :( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) (26) وقال ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول ) (27) وقال تعالى ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) (28).
المحور الرابع
وسائل حماية الأمن الفكري


مع أن التشخيص لأسباب الإخلال بالأمن الفكري كان ميسوراً لوضوحه إلا أن وصف العلاج أشد صعوبة في هذه الظروف التي وصل فيها الخلل إلى درجة الاختراق الفكري كما أسلفت ،ومع ذلك فإن وسائل حماية الأمن الفكري منها ما هو وقائي ـ وهو الأنفع ومنها ما هو علاجي وهو ضروري ، ذلك أن العيش في مجتمع مزدحم يختلط أفراده وفيهم الصحيح والسقيم مظنة لانتشار بعض الأمراض فيه بفعل العدوى فإما أن ننتظر حتى تظهر الأعراض على البعض فنبادر بعلاجهم ، وإما أن نسعى إلى الوقاية بأخذ الجميع جرعة من اللقاح الواقي من المرض بإذن الله ، واللقاح الفكري أولى وأكبر تأثيراً .

أولا ً : من الوسائل الوقائية لحماية الأمن الفكري :
(1) إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه : وترسيخ الانتماء لدى الشباب لهذا الدين الوسط وإشعارهم بالاعتزاز بهذه الوسطية( وكذلك جعلناكم أمة وسطاَ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) (29) ، وهذا يعني الثبات على المنهج الحق وعدم التحول عنه يمنة أو يسرة وعدم نصرة طرف الغلو والإفراط أو طرف الجفاء والتفريط في صراعهما المستمر.
(2) معرفة الأفكار المنحرفة وتحصين الشباب ضدها: فلا بد من تعريفهم بهذه الأفكار وأخطائها قبل وصولها إليهم منمقة مزخرفة فيتأثرون بها ؛لأن الفكر الهدام ينتقل بسرعة كبيرة جداًّ ولا مجال لحجبه عن الناس ولقد كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير لكن حذيفة بن اليمان كان يسأله عن الشر مخافة أن يدركه (30) وهو منهج قرآني دل عليه قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) (31) فاستبانة سبيل المجرمين لاجتنابها كان سبباً لتفصيل الآيات حولهم (32) ، كما أن فضح المنافقين في القرآن وخصوصاً في سورة التوبة وكشف طريقة تفكيرهم كان من أهدافه تحذير المسلمين عن سلوك مسالكهم(33).
والغالب أن القلب والفكر محل لمن سبق إليه ،ومن هنا فأهمية السبق بالبيان كبيرة في الوقاية من الفكر المنحرف بإذن الله ومثال ذلك أفكار أهل التكفير التي قادت إلى التفجير لو تم مناقشتها بوضوح في بداياتها لما راجت على كثير من الشباب الذين تأثروا بها فيما بعد وكتاب المقدسي المسمى ( الكواشف الجلية ) الذي يكفر فيه الدولة السعودية صدر قبل سنوات عديدة بل وتأثر به من فجروا في العليا بالرياض في عام 1415هـ كما جاء في اعترافاتهم التي بثها التليفزيون السعودي آنذاك ، ومع ذلك لم تتم مناقشة الشبهات المثارة ودحضها بالدليل الشرعي في ذلك الحين مع أنها شبهات لا تصمد أمام النقد العلمي المدعم بالدليل الواضح من الكتاب والسنة على وفق نهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى (34) .
(3) إتاحة الفرصة الكاملة للحوار الحر الرشيد داخل المجتمع الواحد : وتقويم الاعوجاج الفكري بالحجة والإقناع؛ لأن البديل هو تداول هذه الأفكار بطريقة سرية غير موجهة ولا رشيدة مما يؤدي في النهاية إلى الإخلال بأمن المجتمع كما حدث ، ومن تطبيقات هذه القاعدة في السنة النبوية قول بعض حدثاء العهد بالإسلام لرسول الله r : ( اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ) (35) والمقصود طلب تخصيص شجرة يتبرك بها المسلمون ويعتقدون فيها مالا يحل اعتقاده في مخلوق (36)، وعلى الرغم من مصادمة هذا الطلب لثوابت المعتقد فإن البيئة الصحية التي كان المسلمون يعيشون فيها جعلت هذا الانحراف الفكري يظهر للسطح فوراً وتتم مناقشته في العلن مع القيادة العلمية والسياسية للأمة المتمثلة في النبي r : ومن تطبيقات هذه القاعدة في السنة النبوية قول أحد الشباب لرسول الله r ( ائذن لي في الزنا ) (37) فهو يعرف تحريمه وبشاعته ومع ذلك يطلبه من أتقى الأمة وأنقاها ؛لأن مجال الحوار الحر كان مفتوحاً معه r دون خوف أو وجل فتمت معالجة هذا الانحراف الفكري في مهده ، ومن تطبيقاتها في عهد الخلفاء الراشدين بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس لمناقشة الخوارج في حروراء ومحاورتهم بعد خروجهم (38) وكان من نتيجة هذا الحوار رجوع الثلثين عن بدعتهم قبل المواجهة العسكرية معهم.
(4) الاهتمام بالتربية : في المدارس والمساجد والبيوت ، وكم يؤلم أن نرى ونسمع هذا الانفصال الشعوري بين الآباء والأبناء ، وبين المعلمي
0
3K

هذا الموضوع مغلق.

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️