*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
(وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً"60") قوله تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه .. "60"} أي: اذكر يا محمد وقت أن قال موسى لفتاه، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون، وكان من نسل يوسف ـ عليه السلام ـ وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه. {لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"} لكن، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟ مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد: أهو محق أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة: اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي: اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم: "في الغد أجيبكم". إذن: إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تحسب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه. ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه. ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البطء في هذه المسألة دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لترد على مهاترات القوم، وتبين لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟ جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومن لف لفهم من كفار مكة: أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعاً له طلباً للعلم. جاءت الآيات لتقول لهم: يا من لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه، فكان من الواجب أن تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين. وسبب قصة موسى عليه السلام ـ يقال: إنه سأل الله ـ وكان له دلال على ربه: {رب أرني أنظر إليك .. "143"} (سورة الأعراف) والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلمه: {وما تلك بيمينك يا موسى "17"} (سورة طه) فأطال موسى الكلام مع ربه، ومن الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأنس بكلام الله؟ لذلك قال موسى: {قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى "18"} (سورة طه) وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله: يا رب، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربه تبارك وتعالى: نعم في الأرض من هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مجمع البحرين. وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلام ـ خطب مرة فسئل: من أعلم؟ فقال: أنا ـ يعني من البشر، فأخبره الله تعالى: لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتر موسى ـ عليه السلام ـ بما أعلمه الله. ثم يقول تعالى: {لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"} لا أبرح: أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني: لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني: لا أترك ما أنا بصدده، فإن كنت قاعداً لا أترك القعود، وإن كنت ماشياً لا أترك المشي، وقد قال موسى ـ عليه السلام ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهاً إليه، فيكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين. وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي .. "80"} (سورة يوسف) قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يأتوا به ويعيدوه إليه. و"مجمع البحرين" أي: موضع التقائهما، حيث يصيران بحراً واحداً، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شط العرب. وقوله: {أو أمضي حقباً "60"} الحقب: جمع حقبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلام ـ مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحقبة سبعون سنة. ويكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سرت مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مشوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحي الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن علم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر. (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً"61") (بلغا) أي: موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي: مجمع البحرين (نسيا حوتهما) أي: حدث النسيان منهما معاً، وإن كان حمل الحوت منوطاً بفتى موسى وقد نسيه، فكان على موسى أن يذكره به، فرئيس القوم لابد أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الركب، وكانت العادة أن يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحداً نسى شيئاً، إذن: كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير، ويذكر فتاه بما معهم من لوازم الرحلة. والحوت: نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يطلقون على كل سمك حوتاً، وقد أعدوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل. وقوله تعالى: {فاتخذ سبيله في البحر سرباً "60"} خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرب نحو البحر، والسرب: مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول: تسرب الماء من القربة مثلاً؛ ذلك لأن مستوى الماء في القربة أعلى فيتسرب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشوي، وتعود له الحياة، ويتوجه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه. (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً"62") أي: جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد، قال موسى ـ عليه السلام ـ لفتاه: أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر، والنصب: هو التعب. فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكر الفتى ما كان من نسيان الحوت (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً"63") هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إذ لجأنا إلى الصخرة عند مجمع البحرين لنستريح {فإني نسيت الحوت .. "63"} ونلحظ أنه قال هنا (نسيت) وقال في الآية السابقة {نسيا .. "61"} ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى. فكلام الله تبارك وتعالى يدلنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذهنه بأشياء أخرى تنسيه ما هو منوط به من أمر الرحلة. ثم يعتذر الفتى عما بدر منه من نسيان الحوت، ويقول: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره .. "63"} فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكر الحوت. وقوله تعالى: {واتخذ سبيله في البحر عجباً "63"} أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً، في الآية السابقة قال: {سرباً "61"} وهذه حال الحوت، وهنا يقول (عجباً) لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشوي تدب فيه الحياة حتى يقفز في المكتل، ويتجه صوب الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجت من المألوف. (قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً"64") أي: قال موسى ـ عليه السلام {ذلك ما كنا نبغ .. "64"} أي: نطلب، فهذا المكان الذي فقد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عرف عنوان المكان، وهو مجمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً. وهذه الصورة لا توجد إلا في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد. ثم يقول تعالى: {فارتدا على آثارهما قصصاً "64"} أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قصاصو الأثر، ومعنى: {قصصاً "64"} أي: بدقة إلى أن وصلا إلى المكان الذي تسرب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى ـ عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصالح. >>>>>>>>>>>
(وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً"60") قوله تعالى: {وإذ قال...
(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65")

سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإن كانت لله تعالى فهي العز والشرف، وإن كانت لغير الله فهي الذل والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حظوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:
{سبحان الذي أسرى بعبده .. "1"}
(سورة الإسراء)
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خير عبده. ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال:
{آتيناه رحمة من عندنا .. "65"}
وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردت في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:

{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"}
(سورة الزخرف)

فكان رد الله عليهم:

{أهم يقسمون رحمة ربك .. "32"}
(سورة الزخرف)

أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك؛ لذلك قال تعالى:
{آتيناه .. "65"}
نحن، وقال:
{من عندنا .. "65"}
فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها:
{وعلمناه من لدنا علماً "65"}
أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:

{إنك لن تستطيع معي صبرا "67" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}

فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة.




(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا )
كأن موسى عليه السلام يعلمنا أدب تلقي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطف معه واستسمحه بهذا الأسلوب:

{هل أتبعك .. "66"}
والرشد: هو حسن التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:

{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .. "85"}
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
{وقل رب زدني علماً "114"}
لذلك يقول الشاعر:
كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي
لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً.
والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال".



(قال إنك لن تستطيع معي صبراً"67") هنا يبدأ العبد الصالح يملي شروط هذه الصحبة ويوضح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة علمه ومذهبه، فمذهبك غير مذهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا علم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عذراً على عدم صبره معه؛



(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"68")
فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ

أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير. لقد تجلى في قول الخضر:

{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
(سورة الكهف)

مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟



(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمراً"69")

أي: أنا قابل لشروطك أيها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدم المشيئة فقال:

{إن شاء الله "69"}
ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه

{صابراً .. "68"}
وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور.




(قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً"70")

وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة.



>>>>>>>>>
*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65") سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإن كانت لله تعالى فهي العز والشرف، وإن كانت لغير الله فهي الذل والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حظوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه: {سبحان الذي أسرى بعبده .. "1"} (سورة الإسراء) كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خير عبده. ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال: {آتيناه رحمة من عندنا .. "65"} وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردت في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"} (سورة الزخرف) فكان رد الله عليهم: {أهم يقسمون رحمة ربك .. "32"} (سورة الزخرف) أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك؛ لذلك قال تعالى: {آتيناه .. "65"} نحن، وقال: {من عندنا .. "65"} فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها: {وعلمناه من لدنا علماً "65"} أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة. إذن: علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها. إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له: {إنك لن تستطيع معي صبرا "67" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"} فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة. (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) كأن موسى عليه السلام يعلمنا أدب تلقي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطف معه واستسمحه بهذا الأسلوب: {هل أتبعك .. "66"} والرشد: هو حسن التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية. أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .. "85"} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وقل رب زدني علماً "114"} لذلك يقول الشاعر: كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً. والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال". (قال إنك لن تستطيع معي صبراً"67") هنا يبدأ العبد الصالح يملي شروط هذه الصحبة ويوضح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة علمه ومذهبه، فمذهبك غير مذهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا علم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عذراً على عدم صبره معه؛ (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"68") فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟ ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير. لقد تجلى في قول الخضر: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"} (سورة الكهف) مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ (قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمراً"69") أي: أنا قابل لشروطك أيها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدم المشيئة فقال: {إن شاء الله "69"} ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه {صابراً .. "68"} وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور. (قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً"70") وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة. >>>>>>>>>
(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65") سبق أن تحدثنا عن...

(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71")

(فانطلقا) سارا معاً، حتى ركبا سفينة، وكانت معدة لنقل الركاب، فما كان من الخضر إلا أن بادر إلى خرقها وإتلافها، عندها لم يطق موسى هذا الأمر، وكبرت هذه المسألة ف نفسه فلم يصبر عليها فقال:

{أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71"}
أي: أمراً عجيباً أو فظيعاً. ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته.
كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يعلمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن الكلام قد يقال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك: أنا رهن أمرك ورقبتي لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً.
ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكتف بالاستفهام:

{أخرقتها لتغرق أهلها .. "71"}
بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.



(قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً"72")
وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ يقول: إن كلامي لك كان صادقاً، وقد حذرتك أنك لن تصبر على ما ترى من تصرفاتي، وهاأنت تعترض علي، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألا تسألني عن شيء حتى أخبرك أنا به.



(قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً "73") يعتذر موسى ـ عليه السلام ـ عما بدر منه لمعلمه، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته

{ولا ترهقني من أمري عسراً "73"}
أي: لا تحملني من أمر اتباعك عسراً ومشقة. فسامحه الخضر وعاود السير



(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكراً "74")

تلاحظ أن الاعتداء الأول من الخضر كان على مال أتلفه، وهنا صعد الأمر إلى قتل نفس زكية دون حق، فبأي جريرة يقتل هذا الغلام الذي لم يبلغ رشده؟ لذلك قال في الأولى:

{لقد جئت شيئاً إمراً "73"}
أي عجيباً أما هنا فقال:
{لقد جئت شيئاً نكراً "74"}
أي: منكراً؛ لأن الجريمة كبيرة.
والنفس الزكية: الطاهرة الصافية التي لم تلوثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية. وكذلك يأتي الرد من الخضر مخالفاً للرد الأول، ففي المرة الأولى قال:
{ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً "72"}
أي: قلت كلاماً عاماً

اما هنا فقال:




(قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً"75")
وأكدها وأرده بالكلام أي: قلت لك أنت. ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه



(قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً"76")

وهكذا قطع موسى ـ عليه السلام ـ الطريق على نفسه، وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها الفراق؛

<لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحمنا الله، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير">

فهذه هي الثالثة، وليس لموسى عذر بعد ذلك. ومعنى:

{وقد بلغت من لدني عذراً "76"}
أي: قد فعلت معي كل ما يمكن فعله، وليس لي عذر بعد ذلك




(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً "77")

استطعم: أي طلب الطعام، وطلب الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل مالاً لقلنا: إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنع الطعام عن سائله دليل بخل ولؤم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مرا بها وطلبا الطعام فمنعوهما.
والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يصور مدى بخل هؤلاء القوم ولؤمهم وسوء طباعهم، فلم يقل مثلاً: فأبوا أن يطعموهما، بل قال:

{فأبوا أن يضيفوهما .. "77"}
وفرق بين الإطعام والضيافة، أبوا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أبوا أن يضيفوهما، يعني كل ما يمكن أن يقدم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من لؤم هؤلاء الناس. وتلحظ أيضاً تكرار كلمة (أهل) فلما قال:

{أتيا أهل قريةٍ .. "77"}
فكان المقام للضمير فيقول: استطعموهم، لكنه قال:

{استطعما أهلها .. "77"}
لأنهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟
بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البخل ولؤم الطباع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:

{فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه .. "77"}
أي: لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وجدا جداراً يريد أن ينقض، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإن جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قرب. أي: جداراً قارب أن ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدع والشروخ مثلاً.
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضيقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويدققون في المسائل فلا مانع لديهم أن يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياة تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام.
ألم يقل الحق سبحانه:

{فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"}
(سورة الدخان)

فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدت مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله:

{فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"}
(سورة الدخان)

دليل على أنها تبكي على فقد الصالحين.
وقد سئل الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عن هذه المسألة فقال: "نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضوع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مصلاه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله".
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكون من حوله، فالكون ساجد لله مسبح لله طائع لله يحب الطائعين وينبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول: (نبا به المكان) أي: كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مسبح وهو غافل. وعلى هذا الفهم فقوله تعالى:

{يريد أن ينقض .. "77"}
قول على حقيقته. إذن: فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة،
<وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث">

وروي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم. وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا: لا ينبغي أن نقول: سبح الحصى في يد رسول الله؛ لأن الحصى يسبح أيضاً في يد أبي جهل، لكن نقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه.
ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك، ولغة للطير، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار، وأنها تفر من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة. إذن: فلهم وسائل إدراك، ولهم لغة يتفاهمون بها، ولهم منطق يعبرون به.
ثم يقول الحق سبحانه عن فعل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض

{فأقامه .. "77"}
أي: أصلحه ورممه

{قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"}
هذا قول موسى ـ عليه السلام ـ لما رأى لؤم القوم وخستهم، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يطعمونا، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟
وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلام ـ لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل



(قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً"78")
(قال) أي: العبد الصالح (هذا) أي: ما حدث منك من قولك:

{قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"}
وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلام ـ على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفراق بينهما، وكأن العبد الصالح لم يأت بشيء من عنده، لقد قال موسى:

{إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني .. "76"}
قوله:

{هذا فراق بيني وبينك .. "78"}
تعد دستوراً من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان، فيظل كل منهما له طريقه: المرتاض له طريق، وغير المرتاض له طريقه، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر، بل يلزم أدبه في حدود ما علمه الله. ثم يقول تعالى على لسان الخضر:

{سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً "78"}
أي: لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات، حتى لا يكون في نفسك مني شيء، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضت عليها لتعلم أن الله لم يخدعك، بل أرسلك إلى من يعلمك شيئاً لم تكن تعلمه.
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تلو الآخر، كما لو عتب عليك صاحبك في أمر ما، وأنت حريص على مودته فتقول له: أمهلني حتى أوضح لك ما حدث، لقد فعلت كذا من أجل كذا، لتريح قلبه وتزيل ما التبس عليه من هذا الأمر.
وقالوا: إن هذا من أدب الصحبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أن نفترق على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وفاق ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف ينمي الفجوة ويدعو للقطيعة، إذن: فقبل أن نفترق: المسألة كيت وكيت، فتتضح الأمور وتصفو النفوس.



>>>>>>>>>>
*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71") (فانطلقا) سارا معاً، حتى ركبا سفينة، وكانت معدة لنقل الركاب، فما كان من الخضر إلا أن بادر إلى خرقها وإتلافها، عندها لم يطق موسى هذا الأمر، وكبرت هذه المسألة ف نفسه فلم يصبر عليها فقال: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71"} أي: أمراً عجيباً أو فظيعاً. ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته. كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يعلمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن الكلام قد يقال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك: أنا رهن أمرك ورقبتي لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً. ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكتف بالاستفهام: {أخرقتها لتغرق أهلها .. "71"} بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر. (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً"72") وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ يقول: إن كلامي لك كان صادقاً، وقد حذرتك أنك لن تصبر على ما ترى من تصرفاتي، وهاأنت تعترض علي، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألا تسألني عن شيء حتى أخبرك أنا به. (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً "73") يعتذر موسى ـ عليه السلام ـ عما بدر منه لمعلمه، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته {ولا ترهقني من أمري عسراً "73"} أي: لا تحملني من أمر اتباعك عسراً ومشقة. فسامحه الخضر وعاود السير (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكراً "74") تلاحظ أن الاعتداء الأول من الخضر كان على مال أتلفه، وهنا صعد الأمر إلى قتل نفس زكية دون حق، فبأي جريرة يقتل هذا الغلام الذي لم يبلغ رشده؟ لذلك قال في الأولى: {لقد جئت شيئاً إمراً "73"} أي عجيباً أما هنا فقال: {لقد جئت شيئاً نكراً "74"} أي: منكراً؛ لأن الجريمة كبيرة. والنفس الزكية: الطاهرة الصافية التي لم تلوثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية. وكذلك يأتي الرد من الخضر مخالفاً للرد الأول، ففي المرة الأولى قال: {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً "72"} أي: قلت كلاماً عاماً اما هنا فقال: (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً"75") وأكدها وأرده بالكلام أي: قلت لك أنت. ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً"76") وهكذا قطع موسى ـ عليه السلام ـ الطريق على نفسه، وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها الفراق؛ &lt;لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحمنا الله، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير"&gt; فهذه هي الثالثة، وليس لموسى عذر بعد ذلك. ومعنى: {وقد بلغت من لدني عذراً "76"} أي: قد فعلت معي كل ما يمكن فعله، وليس لي عذر بعد ذلك (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً "77") استطعم: أي طلب الطعام، وطلب الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل مالاً لقلنا: إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنع الطعام عن سائله دليل بخل ولؤم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مرا بها وطلبا الطعام فمنعوهما. والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يصور مدى بخل هؤلاء القوم ولؤمهم وسوء طباعهم، فلم يقل مثلاً: فأبوا أن يطعموهما، بل قال: {فأبوا أن يضيفوهما .. "77"} وفرق بين الإطعام والضيافة، أبوا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أبوا أن يضيفوهما، يعني كل ما يمكن أن يقدم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من لؤم هؤلاء الناس. وتلحظ أيضاً تكرار كلمة (أهل) فلما قال: {أتيا أهل قريةٍ .. "77"} فكان المقام للضمير فيقول: استطعموهم، لكنه قال: {استطعما أهلها .. "77"} لأنهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟ بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البخل ولؤم الطباع. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه .. "77"} أي: لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وجدا جداراً يريد أن ينقض، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإن جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قرب. أي: جداراً قارب أن ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدع والشروخ مثلاً. وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضيقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويدققون في المسائل فلا مانع لديهم أن يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياة تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام. ألم يقل الحق سبحانه: {فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"} (سورة الدخان) فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدت مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله: {فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"} (سورة الدخان) دليل على أنها تبكي على فقد الصالحين. وقد سئل الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عن هذه المسألة فقال: "نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضوع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مصلاه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله". وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكون من حوله، فالكون ساجد لله مسبح لله طائع لله يحب الطائعين وينبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول: (نبا به المكان) أي: كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مسبح وهو غافل. وعلى هذا الفهم فقوله تعالى: {يريد أن ينقض .. "77"} قول على حقيقته. إذن: فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة، &lt;وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث"&gt; وروي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم. وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا: لا ينبغي أن نقول: سبح الحصى في يد رسول الله؛ لأن الحصى يسبح أيضاً في يد أبي جهل، لكن نقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه. ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك، ولغة للطير، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار، وأنها تفر من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة. إذن: فلهم وسائل إدراك، ولهم لغة يتفاهمون بها، ولهم منطق يعبرون به. ثم يقول الحق سبحانه عن فعل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض {فأقامه .. "77"} أي: أصلحه ورممه {قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"} هذا قول موسى ـ عليه السلام ـ لما رأى لؤم القوم وخستهم، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يطعمونا، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟ وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلام ـ لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً"78") (قال) أي: العبد الصالح (هذا) أي: ما حدث منك من قولك: {قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"} وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلام ـ على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفراق بينهما، وكأن العبد الصالح لم يأت بشيء من عنده، لقد قال موسى: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني .. "76"} قوله: {هذا فراق بيني وبينك .. "78"} تعد دستوراً من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان، فيظل كل منهما له طريقه: المرتاض له طريق، وغير المرتاض له طريقه، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر، بل يلزم أدبه في حدود ما علمه الله. ثم يقول تعالى على لسان الخضر: {سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً "78"} أي: لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات، حتى لا يكون في نفسك مني شيء، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضت عليها لتعلم أن الله لم يخدعك، بل أرسلك إلى من يعلمك شيئاً لم تكن تعلمه. ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تلو الآخر، كما لو عتب عليك صاحبك في أمر ما، وأنت حريص على مودته فتقول له: أمهلني حتى أوضح لك ما حدث، لقد فعلت كذا من أجل كذا، لتريح قلبه وتزيل ما التبس عليه من هذا الأمر. وقالوا: إن هذا من أدب الصحبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أن نفترق على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وفاق ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف ينمي الفجوة ويدعو للقطيعة، إذن: فقبل أن نفترق: المسألة كيت وكيت، فتتضح الأمور وتصفو النفوس. &gt;&gt;&gt;&gt;&gt;&gt;&gt;&gt;&gt;&gt;
(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71")...


(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً"79")

قوله: (لمساكين) اللام هنا للملكية، يعني مملوكة لهم، وقد حسمت هذه الآية الخلاف بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشد حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين: هو من يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير: فهو من لا يملك شيئاً. ومعنى:

{يعملون في البحر .. "79"}
أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه. وقوله:

{فأردت أن أعيبها .. "79"}
المتكلم هنا هو الخضر ـ عليه السلام ـ فنسب إرادة عيب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عما لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال:

{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما .. "82"}
لذلك فإنه في نهاية القصة يرجع كل ما فعله إلى الله فيقول:

{وما فعلته عن أمري .. "82"}
ثم يقول تعالى:

{وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً .. "79"}
كلمة: كل ترسم سوراً كلياً لا يترك شيئاً، فالمراد يأخذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجة له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مقدرة: أي يأخذ كل سفينة صالحة غصباً من صاحبها.
والغصب: ما أخذ بغير الحق، عنوة وقهراً ومصادرة، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة: وهي أخذ المال من حرزه خفيه ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغصب: وهو أخذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف: وهو أخذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلة ما، يخطف الشيء ويفر به دون أن تتمكن من اللحاق به، فالخطف ـ إذن ـ يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره.
ومادام الأمر هنا غصباً فلابد لمالك الشيء أن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حقه، وقد يتوسل إليه أن يترك له ماله، فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلام وأخذ ورد.
إذن: خرق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مقوم، وهذا منهي عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو علم موسى ـ عليه السلام ـ هذه الحكمة لبادر هو إلى خرقها.
ومادام الأمر كذلك، فعلينا أن نحول السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخرقها، أو بخلع لوح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أخذها.
وكلمة (وراءهم) هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حد قوله تعالى:

{من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ .. "16"}
(سورة إبراهيم)

وهل جهنم وراءه أم أمامه؟ وتستعمل وراء بمعنى: بعد، كما في قوله تعالى:

{فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب "71"}
(سورة هود)

وتأتي وراء بمعنى: غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين:

{والذين هم لفروجهم حافظون "5" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "6" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون"7"}
(سورة المؤمنون)

وفي قوله تعالى:

{حرمت عليكم أمهاتكم .. "23"}
(سورة النساء)

إلى ..

{وأحل لكم ما وراء ذلكم .. "24"}
(سورة النساء)

وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى:
{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم .. "187"}

إذن: كلمة (وراء) جاءت في القرآن على أربعة معانٍ: أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يميز العربية عن غيرها من اللغات، والملكة العربية قادرة على أن تميز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العين ـ مثلاً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة. أو: عين الماء، أو: بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد.



(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفراً "80")

الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحلم وسن التكليف، ومادام لم يكلف فما يزال في سن الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال:

{أقتلت نفساً زكيةٍ .. "74"}
أي: طاهرة، ولاشك أن أخذ الغلام في هذه السن خير له ومصلحة قبل أن تلوثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب.
إذن: فطهارته هي التي دعتنا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟
يقول تعالى:

{فكان أبواه مؤمنين .. "80"}
وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .. "14"}
والفتنة بالأولاد تأتي من حرص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في احسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد علم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يرد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.
وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أسدى إلى كليهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام.
لذلك يعد من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أن يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعت وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أعد له من النعيم، لا ندري أن من أخذ من أولادنا قبل البلوغ لا يحدد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يسمون "دعاميص الجنة".
ثم يقول تعالى:
{فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً "80"}
خشينا: خفنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.



(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحماً"81")
ولا يفوت الخضر ـ عليه السلام ـ أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله، فيقول: أنا احب هذا العمل وأريده، إنما الذي يبدل في الحقيقة هو الله تعالى:

{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً .. "81"}
فهذا الخير من الله، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه. وقوله:

{خيراً منه زكاة .. "81"}
أي: طهراً.

{وأقرب رحماً .. "81"}
لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قرة عين لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاء لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أن يتمتعا به في الدنيا الفانية، ويشقيا به في الآخرة الباقية.




(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً"82")

(لغلامين) أي: لم يبلغا سن الرشد، وفوق ذلك هما يتيمان. وكان تحت هذا الجدار المائل كنز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما، ولك أن تتصور ما يحدث لو تهدم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذي عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأوى، إن أقل ما يوصفون به أنهم لئام لا يؤتمنون على شيء. ولقد تعودنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللئام.
إذن: فلاشك أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يعد بمثابة صفعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكر وسوء استقبال، وترد لهم الصاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز.
فعلة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أن يحفظ لحين أن يكبر هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أن يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورده إلى ما كان عليه رد من علمه الله من لدنه، فيقال: إنه بناه بناءً موقوتاً يتناسب وعمر الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سن الرشد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا من أتي علماً خاصاً من الله تعالى.
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سن واحدة توأمين لقوله تعالى:

{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .. "82"}
أي: سوياً، ومعنى الأشد: أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله. وتلاحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا:

{يبلغا أشدهما .. "82"}
ولم يقل رشدهما، لأن هناك فرقاً بين الرشد والأشد فالرشد: حسن التصرف في الأمور، أما الأشد: فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كنزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا

{أشدهما .. "82"}
ثم يقول تعالى:

{ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك .. "82"}
أي: يستخرجاه بما لديهما من القوة والفتوة. والرحمة: صفة تعطي للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى:

{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين .. "82"}
فقوله: شفاء: أي: يشفي داءً موجوداً ويبرئه. ورحمة: أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى. وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحفظ حقهما، ثم لم يفت العبد الصالح أن يرجع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول:

{وما فعلته عن أمري .. "82"}
أي: أن ما حدث كان بأمر الله، وما علمتك إياه كان من عند الله، فليس لي ميزة عليك، وهذا درس في أدب التواضع ومعرفة الفضل لأهله. ثم يقول:

{ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً "82"}
(سورة الكهف)

تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه.



بعد ذلك تنتقل الآيات إلى سؤال آخر من الأسئلة الثلاثة التي سألها كفار مكة لرسول الله بإيعاز من اليهود، وهو السؤال عن الرجل الطواف الذي طاف البلاد
*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً"79") قوله: (لمساكين) اللام هنا للملكية، يعني مملوكة لهم، وقد حسمت هذه الآية الخلاف بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشد حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين: هو من يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير: فهو من لا يملك شيئاً. ومعنى: {يعملون في البحر .. "79"} أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه. وقوله: {فأردت أن أعيبها .. "79"} المتكلم هنا هو الخضر ـ عليه السلام ـ فنسب إرادة عيب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عما لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما .. "82"} لذلك فإنه في نهاية القصة يرجع كل ما فعله إلى الله فيقول: {وما فعلته عن أمري .. "82"} ثم يقول تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً .. "79"} كلمة: كل ترسم سوراً كلياً لا يترك شيئاً، فالمراد يأخذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجة له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مقدرة: أي يأخذ كل سفينة صالحة غصباً من صاحبها. والغصب: ما أخذ بغير الحق، عنوة وقهراً ومصادرة، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة: وهي أخذ المال من حرزه خفيه ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغصب: وهو أخذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب. ومنها الخطف: وهو أخذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلة ما، يخطف الشيء ويفر به دون أن تتمكن من اللحاق به، فالخطف ـ إذن ـ يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره. ومادام الأمر هنا غصباً فلابد لمالك الشيء أن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حقه، وقد يتوسل إليه أن يترك له ماله، فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلام وأخذ ورد. إذن: خرق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مقوم، وهذا منهي عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو علم موسى ـ عليه السلام ـ هذه الحكمة لبادر هو إلى خرقها. ومادام الأمر كذلك، فعلينا أن نحول السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخرقها، أو بخلع لوح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أخذها. وكلمة (وراءهم) هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حد قوله تعالى: {من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ .. "16"} (سورة إبراهيم) وهل جهنم وراءه أم أمامه؟ وتستعمل وراء بمعنى: بعد، كما في قوله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب "71"} (سورة هود) وتأتي وراء بمعنى: غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين: {والذين هم لفروجهم حافظون "5" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "6" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون"7"} (سورة المؤمنون) وفي قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم .. "23"} (سورة النساء) إلى .. {وأحل لكم ما وراء ذلكم .. "24"} (سورة النساء) وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم .. "187"} إذن: كلمة (وراء) جاءت في القرآن على أربعة معانٍ: أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يميز العربية عن غيرها من اللغات، والملكة العربية قادرة على أن تميز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العين ـ مثلاً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة. أو: عين الماء، أو: بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد. (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفراً "80") الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحلم وسن التكليف، ومادام لم يكلف فما يزال في سن الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال: {أقتلت نفساً زكيةٍ .. "74"} أي: طاهرة، ولاشك أن أخذ الغلام في هذه السن خير له ومصلحة قبل أن تلوثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب. إذن: فطهارته هي التي دعتنا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟ يقول تعالى: {فكان أبواه مؤمنين .. "80"} وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .. "14"} والفتنة بالأولاد تأتي من حرص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في احسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد علم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يرد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان. وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أسدى إلى كليهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام. لذلك يعد من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أن يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعت وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أعد له من النعيم، لا ندري أن من أخذ من أولادنا قبل البلوغ لا يحدد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يسمون "دعاميص الجنة". ثم يقول تعالى: {فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً "80"} خشينا: خفنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى. (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحماً"81") ولا يفوت الخضر ـ عليه السلام ـ أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله، فيقول: أنا احب هذا العمل وأريده، إنما الذي يبدل في الحقيقة هو الله تعالى: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً .. "81"} فهذا الخير من الله، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه. وقوله: {خيراً منه زكاة .. "81"} أي: طهراً. {وأقرب رحماً .. "81"} لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قرة عين لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاء لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أن يتمتعا به في الدنيا الفانية، ويشقيا به في الآخرة الباقية. (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً"82") (لغلامين) أي: لم يبلغا سن الرشد، وفوق ذلك هما يتيمان. وكان تحت هذا الجدار المائل كنز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما، ولك أن تتصور ما يحدث لو تهدم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذي عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأوى، إن أقل ما يوصفون به أنهم لئام لا يؤتمنون على شيء. ولقد تعودنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللئام. إذن: فلاشك أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يعد بمثابة صفعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكر وسوء استقبال، وترد لهم الصاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز. فعلة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أن يحفظ لحين أن يكبر هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أن يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته. ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورده إلى ما كان عليه رد من علمه الله من لدنه، فيقال: إنه بناه بناءً موقوتاً يتناسب وعمر الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سن الرشد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا من أتي علماً خاصاً من الله تعالى. ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سن واحدة توأمين لقوله تعالى: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .. "82"} أي: سوياً، ومعنى الأشد: أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله. وتلاحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا: {يبلغا أشدهما .. "82"} ولم يقل رشدهما، لأن هناك فرقاً بين الرشد والأشد فالرشد: حسن التصرف في الأمور، أما الأشد: فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كنزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا {أشدهما .. "82"} ثم يقول تعالى: {ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك .. "82"} أي: يستخرجاه بما لديهما من القوة والفتوة. والرحمة: صفة تعطي للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين .. "82"} فقوله: شفاء: أي: يشفي داءً موجوداً ويبرئه. ورحمة: أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى. وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحفظ حقهما، ثم لم يفت العبد الصالح أن يرجع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول: {وما فعلته عن أمري .. "82"} أي: أن ما حدث كان بأمر الله، وما علمتك إياه كان من عند الله، فليس لي ميزة عليك، وهذا درس في أدب التواضع ومعرفة الفضل لأهله. ثم يقول: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً "82"} (سورة الكهف) تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه. بعد ذلك تنتقل الآيات إلى سؤال آخر من الأسئلة الثلاثة التي سألها كفار مكة لرسول الله بإيعاز من اليهود، وهو السؤال عن الرجل الطواف الذي طاف البلاد
(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة...
فوائد من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

• فمنها : أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجهده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله : ( وعلمناه من لدنا علمًا ) .
• ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى - عليه السلام - : ( هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا ) ، فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه . بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعون أنه يتعاونون عم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أن يعلم معلمه ، وهو جاهل جدًا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
• ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى - بلاشك - أفضل من الخضر .
• ومنهل : تعلم العالم الفاضل ، للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة . فإن موسى - عليه السلام - من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا في العلم الخاص ، كان عند الخضر ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه . فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصرًا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوهما من العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثًا ولا فقيهًا .
• ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : ( تعلمن مما علمت ) أي : مما علمك الله تعالى .
• ومنها : أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع . وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارًا أو ليس فيه فائدة لقوله : ( أن تعلمن مما علمت رشدًا ).
• ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه ليس بأهل لتلقي العلم . فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه : إنه لا يصبر معه .
• ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علمًا وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه . وإلا فالذي لا يدريه أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا ) . فجعل الموجب لعدم صبره ، عدم إحاطته خبرًا بالأمر .
• ومنها : الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .
• ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول : ( إن شاء الله ) .
• ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : ( ستجدني إن شاء الله صابرًا ) فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .
• ومنها : جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها .
• ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : ( لا تؤاخذني بما نسيت ) .
• ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم ولا ينبغي به أن يكلفهم ما لا يطيقون أو يشق عليهم ويرهقهم فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
• ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها . فإن موسى - عليه السلام - أنكر على الخضر خرقه السفينة وقتل الغلام وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر . وموسى - عليه السلام - لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر . فاستعجل - عليه السلام - وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الإنكار .
• ومنها : القاعدة الكبير الجليلة وهو أنه ( يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ) ويراعي أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما . فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرًا منه وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر . وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر . فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا . ومنها القاعدة الكبيرة أيضًا وهي أن ( عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ) .
كما خرق الخضر السفينة لتعيب فتسلم مت غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق أو غرق أو نحوهما في دار إنسان أو ماله وكان إتلاف بعض المال أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظًا لمال الغير . وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ولو من غير إذن .
• ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : ( يعملون في البحر ) ولم ينكر عليهم عملهم .
• ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ؛ لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة .
• ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام : ( لقد جئت شيئًا نكرًا ) .
• ومنها : أن القتل قصاصًا غير منكر لقوله : ( بغير نفس ) .
• ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه وفي ذريته .
• ومنها : أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما وإقامة جدارهما بأن أباهما صالح .
• ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ . فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : ( فأردت أن أعيبها ) . وأما الخير فأضافه إلى الله تعالى لقوله : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ) . كما قال إبراهيم - عليه السلام - : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) . وقال الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا ) مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
• ومنها : أن ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ويترك صحبته حتى يتبعه ويعذر منه كما فعل الخضر مع موسى .
• ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
ام محمد الغوطي
اختي الفاضلة

جزاك الله كل خير
بصراحة موضوع متعوب علية ومميز كتير

وانا في انتظار ان تكملي لنا بقية السورة

وفعلا ان نحفظ ونحن فاهمين معاني الايات يزيد من رسوخ الايات في قلوبنا
وقصة سيدنا موسى مع الخضر لها فوائد كثيرة حتى في وقتنا الحالي
ونتعلم ان نصبر وان لا نتسرع في ابداء ارائنا او الحكم على شئ بدون ان نفهم معناة
وان نتعلم ممن هم اكثر خبرة منا في الحياة وان ناخذ بنصائح من هم اخبر منا واعلم

انا بستناكي بفارغ الصبر

السلام عليكم