ورقة مهمة.. الصحوة في 30 عاماً: ماذا قدمت للداخل السعودي؟

الملتقى العام



توطئة
في بواكير هذا القرن الهجري حدث أمران عظيمان أحدثا دويّاً هائلاً وطوفاناً هادراً:
- سقوط إمبراطورية الشاه في إيران والذي كان بمثابة عسكري المنطقة والوصي بتطبيق التغريب فيها، وصعود التيّار الشيعي المحافظ ووصوله إلى الحكم متمثلا في رمزه وقائده الخميني، وبدء تصدير ما عُرف بالثورة الإسلاميّة وما صاحب ذلك من الحروب والقلاقل في المنطقة والعالم بأجمعه.
- احتلال الحرم المكّي الشريف من قبل جهيمان وأصحابه من الفئة الباغية التي خرجت على جماعة المسلمين، وما صاحب ذلك من إعلان المهديّة والدعوة إلى مبايعتهم ومنابذة ولي الأمر القائم الذي بايعه العلماء وعامة الشعب ورضوه حاكماً عليهم.
قبل هذه الجلبة كانت أفغانستان المسلمة للتو قد وقعت في براثن احتلال الإتحاد السوفيتي الشيوعي الملحد ومخالبه المفترسة، فهي طريقه الممهدة لوصوله إلى المياه الدافئة في الخليج، وكانت كثير من بلاد المسلمين قد اعتنقت أفكار اليسار الشيوعي، فقد غدت معالم الساحات في تلك البلاد حمراء اشتراكيّة، وصدق فيهم قول القائل: إذا مُطرت موسكو فإن كثيراً من عواصم العالم العربي تفتح مظلاتها، إشارة إلى الحميمية المتبادلة بينهم، فقد غرق الفئام من المثقفين في غياهب الفكر الاشتراكي وتماهوا في تعاليمه البائسة، وطبّقت الأحزاب اللادينيّة والعلمانيّة أرجاء البلاد الإسلاميّة حكومات شعوباً، حتى صار المسلم غريباً في وطنه، والشرائع مهملة، وراجت أسماء الملاحدة ومحاربو الدين وأفكارهم التي بثوها في مؤلفاتهم وأسفارهم، وفشا الجهل بأحكام الإسلام فشوا ذريعا في بلاد الحكمة والإيمان بلاد اليمن فاستعمرتها في الجنوب أقليّة شيوعيّة غاصبة، وذاع صيت النصيرية في سوريا حتى صاروا حكّام البلاد، وفي ليبيا أحكمت الاشتراكيّة قبضتها عليهم، وهناك في بلاد الجزائر حيث يرقد مليون شهيد في سبيل الحرية وتحرير البلاد من المحتلين الغاصبين الفرنسيين كان للاشتراكيّة احتلال جديد وصوت مرتفع صاخب تقوده ثلة حاكمة مستبدة، وفي مصر الكنانة غابت الأصوات المتدينة ليحل محلها أحزاب علمانيّة يسارية تحالفت مع الاتحاد السوفيتي الشيوعي حيناً ومع الغرب العلماني حيناً آخر ورمت العلماء عن قوس واحدة وأحكمت فيهم قتلا وسجناً.
لقد كانت عامة بلاد المسلمين نهباً مشاعاً وحمى مباحاً للأحزاب والأفكار المعاندة للديانة وأهلها.
كانت مسرحاً عريضاً للتغريب والعلمانية وتغييب الإسلام عمدا عن سُدة الحكم وإدارة شؤون الحياة.
حتى إن طائفة من الأفكار المنحرفة الزائغة لمّا أحكمت سيطرتها على عدد من المجتمعات الإسلاميّة تداعى بعضٌ من علماء المسلمين بقصور معرفيٍّ منهم، وقلة وعي بحقيقة هاتيك الأفكار والأقوال ومآلاتها إلى تبنّي تلك المذاهب باسم الشريعة الإسلاميّة، فتسامع الناس باشتراكيّة الإسلاميّة، وليبراليّة الدّين، وحرّية المعتقد!
خلاصة المشهد في تلك الحقبة الغابرة هي أن الإسلام غُيّبَ في ركن ناءٍ قصيٍّ عن عامة مسرح الحياة واختطف الأمر والنهي في بلاد المسلمين شرذمة قليلون لا يمثلون منهجه ولا يقيمون أمره.
في تلك الأثناء كانت ثمة نور قويٌّ آخذ في التمدد والاتساع أذن الله بانبلاجه من أرض الحرمين حيث انبثق قديماً ضياء الإسلام في مفتتح أمره، بلاد الجزيرة العربية، هنا في المملكة العربية السعودية شقّ شعاع الصحوة الإسلاميّة فيها دياجير الظلام الدامس الذي كان يلفُّ كثيراً من بقاع الأرض المسلمة، وعادت الشريعة غضّة طريّة منتعشة بانتشار معالم الديانة، وأنوار الهُدى، وداعي الحقِّ، وذيوع العلم، ونهوض العلماء بأعباء التعليم والدعوة وهداية الخلق، واصطفاف الناس حكّاماً ومحكومين في ركب الشريعة والعمل بمبادئها ونشر تعاليمها في أرجاء المعمورة.
حقّاً لقد تضوّع عبير فوّاح من أرض الجزيرة العربيّة، حاملاً شذّاه العبق وأريجه النديِّ مجتازاً الفيافي والقفار، وعابراً الحدود ليجد المسلمون في الشرق والغرب جميل أثره.
قبلاً: لم تكن هذه البلاد نائية عن كثير من تلك الأفكار الدخيلة على المسلمين، فقد أصابها ما أصابها من طوفان الأفكار والمذاهب المنحرفة، لكنها أخذت تتعافى منه سريعاً وتثوب إلى رشدها، ململمة جراحها التي أصيبت بها من بعض أبنائها الذين خرجوا عن نظامها وقد طووا كشحاً عن الشريعة وهُداها، فامتطوا صهوة المذاهب الوضعية بمختلف توجهاتها، غير أنّها لم تصنع لنفسها موضعا تستقر فيها، فلما جاءها طوفان الحق وفيضان الخير تلاشت سريعا وانمحت آثارها كأن لم تعرّج هنا يوماً من الدهر.
عاد المجتمع برمته إلى جادة الأمر.
بدا وكأنه مجتمع نُسجت خيوطه من بَزِّ الخير، حاكته يد الفضيلة، وطرّزته أنامل البِرِّ، وصبغه الهداة بطابعهم.
مجتمع بلغ خيره أقصى بلاد الدنيا، وأرسل رجالَه إلى أدغال البلاد النائية دعاة وهداة ومعلمين، ومسح محسنوهم بأيديهم الحانية الدافئة على رؤوس الفقير والمسكين واليتيم في كل ركن من الأرض تدب فيه الحياة وتجري فيه الأنفاس، وتعالت مباني الكليات الشرعية، وتسامت مآذن المساجد، وشيدت المستشفيات، وعُمرت الأوقاف.
إنّها لصورة وضيئة شامخة لمجتمع تشبّع بالقيَم الفاضلة، وتغلغلت فيه التعاليم الشرعية، وعلا فيه صوت الرشد والحكمة، وهمهمَ أهله بالقرآن وتغنّوا بآياته ورتّلوا سوره، وردّدوا دائبين ألفاظ التسبيح والتهليل وكلمات الخير.
إليكم لمحة موجزة عابرة عن أبرز معالم التغيّر الذي طال هذا المجتمع، وانتقل به نحو السمو والعلياء، وجعل له مكانة شامخة بين الأمم استعادت به مجد المسلمين الغابر، وعادت فيه علوم الشريعة الغراء جذعة حيّة، وصار للعلماء والدعاة مكانتهم اللائقة ومكانهم المحفوظ لدى ولاة الأمر ولدى عامة الناس.
سوف نستعرض في الصفحات الآتية بعضاً من أبرز إسهامات العلماء والدعاة والمصلحين في صناعة "مجتمع الخير" وتغذية "جيل الصحوة الإسلامية" بمقومات العزة والسؤدد والرفعة حسب ما تقتضيه تعاليم الشريعة وفضائل الأخلاق ومكارمها.
إنها صفحات من نور، وقبس من ضياء، وعبق من شذى فوّاح.
هي إلماحات عابرة عجلى لكنها تعكس بقيّة الصورة المكتنزة داخل هذه التفاصيل اليسيرة المُلهمة.

شرعيّاً
العلم أسُّ الفضائل وأساس المفاخر وغاية المطالب، ورأس العلم الجدير بالعناية والطلب هو العلمُ الشرعي، وهو ما صار معلماً بارزاً في توجّه المجتمع ونظامه المحكم المشيد، حتّى إن الشريعة وأحكامها صارت شعار الناس وبها يقيسون الفضائل ويزنون الأمور والأشخاص ويبنون عليهم التصوّرات وإليها يحتكمون.
من أعظم ما قام به العلماء والدعاة من رجال هذه المجتمع المبارك، وقادة فكره وثقافته أنهم قاموا نصرة لله ولدينه بنشر التوحيد الذي هو أول واجب على العبيد وأعظم فريضة، وحذّروا من مظاهر الشرك بأنواعه المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية حيث الأضرحة والقباب والمزارات والمطافات، فأحيى الله بهم خلقاً كثيراً، وأعادهم للصواب والهدى، وصار التوحيد وإفراد الله بالعبادة ومعرفة أسمائه وصفاته معلماً بارزاً من معالم الحركة العلميّة الشرعيّة، فاهتموا به اهتماما بالغا وخرجوا يدعون إليه في كل البلدان محتسبين الأذى في ذات الله صابرين قائمين بواجبهم، فانتشرت كتبه ومؤلفاته، وكثر شارحوه ودارسوه، وافتتحت كليّات أصول الدين وأقسام العقيدة في الجامعات، وطبعت من كتبه ملايين النسخ وفاض خيرها حتى دخل القرى النائية في كثير من بلاد المعمورة التي شوّه الشرك معالم التوحيد الأصيلة فيها.
صِنو الاهتمام بالتوحيد الاهتمامُ بالأفكار والمذاهب والفرق، لقد أعطى العلماء هذا الجانب حقه وما يتطلبه من العناية، فقد تسرّب بسببه كثير من المفاهيم المغلوطة والآراء الزائغة والشبهات المُقلقة، فانتشرت المذاهب الهدامة في بلاد المسلمين واستعمرت أفكارهم وعقولهم حتى بدت الشريعة بأحكامها غريبة مقصيّة، فقام العلماء وأهل الفكر بواجب النقد الشرعي وتصحيح المفاهيم والرد على الشبهات، حتى تغلغلت الدعوة السلفية في عموم الأرض، وكثرت المؤلفات التي تناقش أفكار المذاهب المنحرفة وآراءها الخطيرة، وعرف الناس أخطاء العلمانية وأخطارها، وضراوة الشيوعية وبأسها، وانحراف الحداثة وفكرها، و تيه الليبراليّة وما فيها من مجافاة الشرع والبعد عنه.
لم يكن التوحيد على جلالته وعظيم أمره غاية المفاخر فحسب، بل من معالم الفخر في هذا التوجه المبارك الحميد كذلك أنه لم يكن متعصباً في الفقه والأحكام الشرعية العملية لمذهب بعينه أو مدرسة أو رأي إمام، إنما أقام بنيانه على عماد الدليل الشرعي وفق منظومته المعروفة عند علمائه، فراج الاعتماد على الدليل الشرعي، وانتشر التعظيم لأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وصار ترجيح الأقوال الفقهية بناءً عليها بحسب التفصيل المعروف في كتب أصول الفقه وتأصيل الاستدلال، وصار العالم يُحمد عند الناس باستقلاله عن المذاهب وتجرده باتباع الدليل، وأصبح معيار القبول للعالم رسوخُه في الاستدلال وقدرته على التعامل مع الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، حتى إن العامي البسيط ليستفتي العالم فإذا أفتاه سأله مباشرة: ماهو الدليل؟
قلّبْ نظرك في كتب العلماء الكبار، رموز العلم الشرعي، واستمع لفتاواهم عبر "نور على الدرب" أو في المساجد حيث تقام الدروس، تجد الترجيح قائماً بموجب الدليل الشرعي، متحرّراً عن المذاهب وأقوال الناس.
هذا الاهتمام بالدليل الشرعي جعل "الفقه المقارن" غضَّ الإهاب، شامخ الطلعة، منتشراً في الجوامع والجامعات وحِلق العلم، فلم يكن الفقه مقصوراً على مذهب دون آخر، ومن طاف بالمكتبات وتنقّل في دور النشر وجد غزارة شديدة للمؤلفات الفقهيّة بكافة المذاهب والآراء لا تمايز بينها ولا مفاضلة، وصار من بدهيات البحث العلمي في رسائل الماجستير والدكتوراه أن يهتم الطالب بعرض المذاهب الفقهية ويناقش أقوالها ولا يرجح منها إلا ما عضده الدليل وكان معه البرهان.
أما إنه ليس بصحيح ما يشيعه المغرضون من انتشار التشدد الفقهي، والتعصّب للرأي والمذهب، واحتكار الأقوال وتفسيرات النصوص! فالعلماء يذكرون الخلاف الفقهي للناس ويبيّنون الراجح بالدليل ويرخّصون حين وجود الموجب للترخيص والتوسعة، ولو كانوا متعصبين لأحد لتعصّبوا لمذهب الإمام أحمد فهو مذهب الدولة الرسمي وبه يُعمل في القضاء، لكنهم يخالفونه كثيراً، وأكثر الباحثين في الفقه لا يستحضر مذهب الإمام أحمد أو آراءه فضلاً عن التعصّب له، فغالبهم يستحضر الفقه وفق المتون والأدلة الشرعية.
صاحب ذلك أيضاً اهتمام عظيم بالسنة النبويّة على صاحبها أزكى الصلاة وأتم السلام، وصار علم الحديث شيئاً مهيباً عزيزاً يهفو الناس إلى تلقيه ومعرفته وحفظه ومدارسته، وانتشرت المؤلفات المهتمة بصحيح الحديث وتمييز ضعيفه، حتى إن مجالس الناس يغشاها السؤال عن صحة الأحاديث وضعفها، حتّى نُبذت الأحاديث الضعيفة والموضوعة واجتواها الخلق.
وأقبل الناس إقبال اللهف الظامئ على كتب السنة، أما طلاب العلم والباحثون فهم يحققونها ويجلبون مخطوطاتها ويضبطونها على أدق تلك النسخ وأجودها ليعيدوا نشرها صحيحة مضبوطة محقّقة، وأما الناس فأقبلوا يشترون كتب الحديث، ويحرصون على قراءتها والنظر فيها، فانتشرت الأحاديث في مجالس الناس قراءة وحفظاً ودرساً، بل إن الناشئة والصغار أصبحوا يتسابقون في حفظ متون السنة الصغيرة وحفظ جوامع أحاديث الإسلام وأصوله المهمة.
أصبح الناس في مجتمعنا والشرعُ قائدهم وحاديهم، فالكتب التي تغذي ثقافتهم الشرعية تمتلئ في المكتبات والبيوت والمدارس، وصار آحاد الناس يحرص حرصاً واضحاً على معرفة الحكم الشرعي للفعل، فانتشرت الفتوى، وعمَّ الإقبال على أهل العلم، وصار للعالم مكانته ووزنه في أوساط الناس، حتى إن العلماء باتوا ملاذا للناس في تقديم البدائل الشرعيّة لما يرونه من المحرمات المنتشرة، فقام العلماء بواجبهم في التحذير من البنوك الربويّة أشد التحذير، وما زالوا كذلك قائمين بحق الله تعالى وناصحين للمجتمع حتى انتشرت المصارف الإسلاميّة وبدأت البنوك التجارية في التواري والأفول، وبيّنوا سُنن الشرع في الأخلاق والعادات والتقاليد فانتشرت تعاليمه في القيَم والسلوك، وصار معيار القبول للأشخاص والأفراد مدى التزامهم بآداب الشرع.
من الأثر الواضح لاهتمام العلماء بالجوانب الأخلاقية والسلوكية للمجتمع انتشار الحجاب وانحسار السفور ومظاهر التبرج ومسالك الانحراف المعلنة، فتلاشتْ المناظر السلبية في الملابس والأشكال والهيئات وأخذت في الاضمحلال.
وإذا قلّبت طرفك في عنوان الكتب والمحاضرات والندوات ستجد غزارة في المحتوى المهتم بتقويم السلوك، وتحسين الأخلاق، وإفشاء الفضائل، والعمل على السمو السلوكي والروحي، ونشر قيَم السكينة والوقار والطمأنينة، وهي مضامين عائدة على المجتمع بالرخاء والسلام والازدهار، فجميع ذلك من مفاصل دعوة الأنبياء والمرسلين، وهو ما عمل عليه العلماء والدعاة والمصلحون في هذا المجتمع الكريم، وأنجزوا منه قدرا كبيراً ظهرت آثاره في تعاملات الناس وسلوكياتهم وعموم حياتهم.
من تمعّن قليلاً في ألفاظ المجتمع وقوالب حديثه وجدَ مظاهرَ الألفاظ الشرعيّة تكسوه وتغشاه، فالترحيب بالسلام منتشر بين الناس، وترديد الدعاء حاصل حاضر، والعبارات ذات الطابع الأخلاقي الكريم يفوح شذاها في أطياف المجتمع المتعدد، وهذه الصبغة المنطقيّة اللفظيّة غسلت كثيراً من درن المذاهب الفكرية السابقة التي نشرت المصطلحات والألفاظ المباينة للنقاء الشرعي.
لم يكن العلماء والدعاة والمصلحون غافلين عن غزو المظاهر السلبيّة، فوقفوا وقفة رجل واحد في وجه الحملات التي تهدف المساس بالأخلاق والفضيلة، فكتبوا عن الحجاب وأهميته ونفعه للمجتمع، وعن الواجبات المختصة بالمرأة المسلمة، والخطر الإعلامي الذي يهدف إلى تغريب المجتمع عن قيمه الشرعية وثقافته الأصيلة وأخلاقه السامية، وحذّروا من السِّحر، والخرافة، والدجل، وسائر أنواع البدع والمحدثات وشتّى الضلالات، وتصدوا للمذاهب الباطلة وناقشوا أفكارها، حتى إن عدداً من الجامعات افتتحت أقساما خاصة بالمذاهب المعاصرة لبيان خطرها ومناقشة أفكارها وتصحيح مساراتها، وصار يؤمّها ويرتادها ألوف الناس من طلاب العلم القادمين من بلاد شتّى.
أمّا كتاب الله الكريم، ونوره المبين فلم يبق مسجد أو جامع إلا وتسمع في جنباته فتيان المجتمع وشبابه وكهوله يقبلون بنهم بالغ ولهم دويٌّ وصدحٌ على حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وتبارت المدن والمحافظات وتسابقت على تخريج حفاظ القرآن الكريم سنويّاً، وصار حفظ القرآن الكريم مطمح للفتيان والفتيات وهدفاً من أهدافهم، حتى إن جمعيات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة صارت تفتتح الأوقاف تلو الأوقاف لرعاية حفاظ القرآن الكريم والاستمرار في تخريجهم.
أي شرف وفخر يفوق شرف الاهتمام بكتاب الله؟ والحرص على تعليمه وتنشئة الجيل عليه؟ لقد أصبح كتاب الله مهيباً معظّماً في عموم المجتمع، حتى إن جمعيات تحفيظ القرآن الكريم ليتبارى في دعمها أمراء المناطق، والتجار، وعامة الناس، ولا يبقى حفل ختامي لتخريج دفعة جديدة من حفظة كتاب الله الكريم وإلا وتجد أمير المنطقة حاضراً، ويتوالى المحسنون لتقديم الجوائز والأعطيات ليستمر سيل الحفّاظ في التدفّق والمضيِّ.
لم يكن كتاب الله بمعزل عن تفسيره وبيان معانيه، فانبرى العلماء في العناية بالتفسير، فانتشرت أقسامه في الجامعات، وافتتح مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف والذي غدا لاحقا معْلمة سامقة للعناية بكافة علوم الكتاب العزيز وجُلب له أفضل القراء وعلماء القراءات والباحثون فيه للعمل في هذا المشروع العظيم، واهتم العلماء بتحقيق كتب التفسير والعناية بها ودلالة الناس عليها، حتى إن كتاب "تفسير ابن سعدي" طبع منه حوالي 14 مليون نسخة، وأصبح تفسير الإمام ابن كثير موجوداً في كل بيت، فضلا عن تفسير الإمامين الجلالين وغيرها من كتب التفسير الأخرى.
تفطّن العلماء كذلك لأهميّة تحرير العلم وتحقيق أسفاره بضبطها والعناية بنصوصها وإجادة إخراجها، فانتشرت واحدة من أرقى عمليات التحقيق وأكثرها احترافيّة على مستوى العالم الإسلامي كله، وجُلبت المخطوطات، وكثرت نسخها، واهتم طلاب العلم بنشر المؤلفات بعد تحقيقها تحقيقاً علمياً متيناً، وقام سوق النقد العلمي والموازنة بين النسخ والمطبوعات، حتى صار طلاب العلم مهرة متقنون لفنون التحقيق وقراءة النسخ ومراجعة المطبوعات، بعد أن كان هذا العلم مقصوراً على أكابر العلماء وعلية المحققين.
كل هذه المساهمات العلميّة الشرعيّة ساهمت فيها جميع الوسائل الممكنة والمتاحة، عبر التسجيل الصوتي، والمرئي، والمكتوب، والتقني، وغير ذلك مما يمكن تطويعه لخدمة العلم ونشره، فلم يبخل هذا المجتمع بتقديم ما يمكن تقديمه لنشر العلم وبذله إلا وساهم بفاعلية فيه.
لم يكن المرء بحاجة للتطواف بين الجوامع والمساجد لمعرفة الدروس الملقاة هنا وهناك! فبنظرة واحدة على باب أحد الجوامع أو المساجد تجد ملصقات تحوي إعلانات عن دروس العلم في مختلف التخصصات يلقيها علماء قضوا حياتهم في العلم والتحقيق والتدقيق، فلم يبق فن إلا درسوه، ولا علم إلا لقنوا فيه، ولا وقت من أوقات اليوم إلا وتجد فيه درس علم أو حلقة معرفة يؤمها الناس ويقصدها طلاب العلم.
هذا فضلاً عن الدورات العلميّة الصيفية التأسيسية التي يلتحق بها طلاب من الخليج وبعض الدول العربيّة.
بمثل هذا تأسس العلم ورسخت جذوره في البلاد، وصارت حلية الناس في المجتمع، وبمثل هذه الجهود وبذل العلماء أنفسهم للناس ولطلاب العلم انتشرت المعرفة والعلم في كثير من البلدان المجاورة وبلغها خيرها المعرفي.
وطنيّاً
شارك العلماء والدعاة والمصلحون من رجالات المجتمع بإيجابيّة وفاعلية فيما يتصل بالقضايا الوطنيّة، تمثّل ذلك في وقوفهم مع توجّه المجتمع والدولة المحافظ في وجه المد الكاسح للتوجهات الشيوعية واليسارية والقومية التي كانت تجتاح العالم العربي والإسلامي وتنابذ المجتمع كما تناصب الدولة العداءَ، لقد كانت وقفتهم الصادقة في وجه ذلك المد نابعة من إيمانهم بمركزيّة الشريعة في بُنية الدولة، وأن الإسلام هو الدين الحق الذي لا بديل عنه، وأن هذه البلاد هي ملاذ المسلمين ومعقلهم الأهم فيجب صيانتها عن هذه المذاهب الباطلة وتطهيرها منها، كما أن مقتضى البيعة التي بايعوا عليها ولي الأمر تنص على كون الإسلام هو دستور البلاد وقانونها المنظّم لعامة شؤونها.
هذه المشاركة الفاعلة ساهمت في جعل المملكة محوراً ومرتكزاً للعالم الإسلامي الذي ينشد البعد عن المذاهب الضالة المنحرفة، فتداعى علماء العالم الإسلامي للاقتباس من علماء المملكة والإفادة منهم، وأقبلوا ينهلون من معينهم، بل إن الأمر تجاوز ذلك فصار علماء المملكة مرجعاً للفتوى في شتى أنحاء المعمورة، ومثلا يحتذى في العلم والفقه، وصار الطلب والحرص على أشده لدعاة المملكة وعلمهم وفكرهم، فأصبحت فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز ومؤلفات الشيخ محمد بن عثيمين وتقريرات الشيخ عبدالله بن جبرين وأشرطة الشيخ الدكتور سفر الحوالي والشيخ الدكتور سلمان العودة وآخرين غيرهم من العلماء والمفكرين والباحثين مطمحاً للباحثين والمستفيدين وطلاب العلم في جميع أقطار البلاد الإسلامية.
لم يكن العلماء والدعاة مجرد أشخاص يعيشون في عالم التراث، ويقتبسون من الكتب، ويعكفون على تفسيرات نصوصها المجرّدة، لقد كانوا مشاركين بحماسة كبيرة في خلق أجواء مناسبة لحماية الناس مما قد يضر بهم ويفسد حياتهم، فلم تكن محاضن حلقات تحفيظ القرآن الكريم والمراكز الصيفية وأنشطة الطلاب إلا أنماطا مصغّرة للبيئات النقيّة التي تحفظ الأمن الأخلاقي وتساهم في درء خطر الآفات الضارة بالعقول والنفوس كالمخدرات والمسكرات وأنواع المهلكات الأخرى والجرائم السلوكية التي تهدد تماسك المجتمع وصلابته.
استطاع العلماء والدعاة بتوفيق من الله أن يصنعوا هويّة ظاهرة متحدة تنتظم مختلف المناطق وكافة القبائل والعوائل، تعمر هذه الهويّة معالم التوجه المحافظ الذي يساهم في سيادة جو من الألفة والمحبة العائدة بالنفع على نظام الوطن كله وتساهم في تقليل الاحتكاك السلبي ومظاهر التعصّب المرفوضة.
وعلى الرغم من قيام العلماء بواجبهم في إشاعة أحكام السمع والطاعة بالمعروف لولي الأمر حفظاً على نظام البلاد وعملاً بنصوص الشريعة إلا أن ذلك لم يفقدهم دورهم في القيام بأمر النصيحة وتصحيح ما يرونه من الخطأ بالطرق المناسبة، لهذا فشا في كثير من العلماء نزعة الاستقلال السياسي وقول رأيه فيما يراه خطأ بتجرد وموضوعيّة دون مواربة أو غش، وكثير من العلماء الذين كتبوا "مذكرة النصيحة" في عام 1412 هـ هم أنفسهم الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه الفئة الضالة التي خرجت وفجرت في البلاد واستهدفت أمنه ونظامه فنقضوا أقوالهم وناقشوا شبههم وردوا على مفترياتهم.
وحين احتاج إليهم الناس في الشفاعة، أو إبلاغ النصيحة، لم يكونوا يتوانون في ذلك بل يقبلون عليه بنفس طيبة سمحة، فيبادرون بالنصح، ويشفعوا في الناس، ويقوموا بواجب البلاغ الذي أمرهم الله به وأوجبه عليهم.
وفي الوقت الذي كانت تنقل الطائرات جموع المسافرين للخارج شرقاً وغرباً كان أهل العلم يشددون على أهمية البقاء في داخل البلاد، بل ويشاركون بإيجابيّة في فعاليات البرامج والمناشط التي تقام في كافة المناطق بالمحاضرات والدورات إحياءً لمفهوم السياحة الداخلية وحماية للناس من أضرار السياحة في الخارج وما فيها من السلبيات.
ومن اطلع على الأنشطة في العقدين الماضيين أدرك حجم نشاط الدعاة ووفرته في تشجيع الناس على اللحاق بالفعاليات والأنشطة والبرامج الداخلية، بل قاموا بعمل عظيم وجهد ضخم حين نشروا ثقافة السياحة المحافظة البعيدة عن المنكرات، فارتفعت أسهم المراكز الصيفية، وأقبل الناس على المخيمات الدعوية، فتحركت سياحة الداخل حركة كبيرة، بل صارت عدد من تلك الفعاليات والمناشط مدعاة لحرص كثيرين من خارج هذه البلاد على المشاركة فيها والاستفادة منها.
حتى في السجون والإصلاحيات ومستشفيات الأمل حيث يثعب جرح الوطن وينزف بنزيف أبنائه كان العلماء والدعاة حاضرون بكلماتهم الحانية، وتوجيهاتهم الرشيدة، وبرامجهم التربوية والدعوية والإصلاحيّة، فنشروا في داخل تلك الأماكن حلقات تحفيظ القرآن وأخذوا يعلمون الناس أمور دينهم، ويستصلحون أخلاقهم، ويعملون على تصحيح مسيرتهم السلوكيّة، ويهدونهم سواء السبيل، فأثمرت دعوتهم خيراً ونفعاً، حتى إن المسؤولين لمّا أدرك أثر القرآن في تغيير حياة السجين والموقوف قرّروا إطلاق سراحه بعد مضيّ نصف مدة حكمه إن حفظ القرآن الكريم وكان سلوكه حسناً.
واتصلت هذه العناية بسمعة البلاد وصورتها لتمتد إلى الاهتمام بالوافدين وتعزيز النواحي الإيجابية للوطن فيهم والإسهام بتحسين صورته وصورة أفراد المجتمع، فأقامت مراكز الدعوة وتوعية الجاليات مناشط خاصة بأولئك، بدعوتهم، والإحسان إليهم، ومساعدتهم، وتعليمهم، وإقامة برامج الترفيه لهم، والاهتمام بحقوقهم والدعوة إلى الرفق بهم ورحمتهم، حتى إن الفوارق لتذوب وتتلاشى بين الناس بكافة فئاتهم وأصولهم حين الذهاب لمثل هذه المراكز فيشعر الوافد وكأنه بين أهله وذويه لما يراه من السماحة والبشر والترحاب.
لقد كان العالم بحق منهجاً متكاملاً من العلم والوعي والمشاركة في شؤون الحياة العامة، إن هؤلاء العلماء بتجردهم وصدق تدينهم وعمق وعيهم ونقاء سريرتهم استطاعوا بمهارة فائقة أن يكونوا قادة المجتمع، ورموزه الكبار، واستطاعوا صناعة جيل من الشباب يحرص على الاقتداء بهم وحذو طريقهم ليصل إلى ما وصلوا إليه، ويحموا بلادهم من شرور الأفكار الهدامة المؤثرة سلباً على روح المجتمع المعروف باعتدال فكره ونضج ثقافته.
مما يحمد للعلماء والدعاة أنهم كانوا مؤسّسين للخطاب المعتدل البعيد عن الغلو والشطط والجنوح، وهذا الخطاب المعتدل صاغ ذهنية صافية معتدلة في أغلب المهتمين بالعلم والمنتسبين إليه، لهذا حين وقعت بعض الإشكالات المعرفيّة أو السلوكيات المناقضة للاعتدال المعرفي الحميد لفظها المجتمع من تلقاء نفسه، وصحّحت الحركة العلميّة مسيرتها تلقائياً لما في عقول الناس وأذهانهم من نور البصيرة، وهذا كان له دور محوري في القضاء المباشر على جملة من المشاكل المعرفيّة والسلوكية التي كادت أن تقضي على ترابط البلاد وأمنه العامر.


خيريّاً
الحديث عن "القطاع الثالث" والمجال الخيري والعمل الاحتسابي لنفع الناس وخدمتهم في هذا المجتمع المحافظ يعد نافلة من القول، فقد بات هذا الأمر واضحاً للعيان كالشمس في رابعة النهار، لا ينكره أو يماري فيه أحد، سواءً في ميدانه الداخلي المتجاور القريب، أو أرضه الفسيحة الخصبة خارجياً.
إن من نعم الله على هذه البلاد الطيبة المباركة أن أفاء عليها الرزق وبسطه فيها بما كنزه لها في أرضها من خيرات البترول، فصارت منجماً ومعيناً ثرّاً يدر على البلاد خيرا وفيراً وفضلاً كثيراً، فرفع الله بذلك أسمهما بين الخليقة جمعاء، حتى صارت الأرض القاحلة الجرداء والصحراء الملتهبة مطمحاً لكبريات الشركات في العالم للمشاركة في حصص التنمية وخطط الازدهار.
هذا الخير الوفير لم يمنع الناس من البذل والعطاء ونفع إخوانهم، أو يغرس فيهم الأثرة ويعمق فيهم الأنانيّة والفردانيّة الجشعة.
إن مجتمعاً يلقّنه العلماء آناء الليل وأطراف النهار قول الله تعالى: } مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم{ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة) إن مجتمعاً هذه موارد ثقافته وهذا نتاج تعليمه لا بد أن يبادر إلى فعل الخير، ويقوم بحق المسكين والفقير واليتيم، ويمشي في حاجة الناس، ويسعى على الأرملة، ويعطف على الكبير ويرحم الصغير.
من اقترب من التفاصيل الدقيقة للمجتمع السعودي وتأمل طبيعة سلوكه ومكونات شخصيته ومدارك أفقه أدرك أنه مجتمع معطاء باذل نافع للجميع، يهتزُّ للنّدى ويطرب للجود، فالكرم وسخاء العطاء ركائز جبلّية، والمساعدة والبذل ونفع الناس سلوك ينتشر في كل المناطق، وهذه الطباع الذاتية الفردية كان ولا بد من استثمارها بطريقة ممنهجة مقننة تتوخى المأسسة، فنشأت الجمعيات الخيرية والمبرات والمؤسسات المانحة.
لو أننا قمنا بإحصاء الجمعيات الخيرية والمؤسسات المانحة ومراكز الدعم والعمل الخيري لوجدنا مئات منها في مختلف مناطق البلاد، تبلغ ميزانيتها المليارات من الريالات، وأصبحت الأوقاف وتأسيس صناديقها نوعاً من الوعي المشترك بين أفراد المجتمع، فلم يبق تاجر أو ثري أو وجيه أو أسرة وقبيلة إلا وقد أقام صندوقاً وقفياً، أو أنشأ مؤسسة مانحة تقوم بالعناية بالمحتاجين ودعم البرامج الاجتماعية النافعة والهادفة.
وخير هذه الجمعيات ونفعها لم يكن مقصوراً على الداخل فحسب، بل إنه امتد ليشمل جميع البلاد في العالم، ففي كل بلد تبرعات وأموال سعودية تعضد المحتاج، وتمد له يد العون، وتقف معه في محنته، وفي كل بلد وعاصمة مسجد جامع ومركز إسلامي بكافة مرافقه قامت ببنائه الحكومة أو أنشأته إحدى المؤسسات التعليمية أو المراكز الخيرية أو بناه محسن وتاجر.
ومن فضل الله وتوفيقه تحوّلت تلك المراكز الإسلاميّة السعوديّة في الخارج - والتي لم تخل منها عاصمة من كبريات عواصم العالم - إلى مركز ومنارة لنشر العلم الشرعي، والمنهج السلفي المنضبط، فاجتمع عليها كثير من الناس ينهلون من عذب معينها، ويقتبسون منها العلم والهدى، فتخرج فيها عدد كبير من الدعاة إلى الله في تلك البلاد، ممن كانوا رموزاً في تعريف الناس بالإسلام ودعوتهم إليه بعلمهم وسلوكهم وحسن سمتهم.
وفي أفريقيا القارة المنسية خرج الآلاف من الدعاة والمحسنين لينشروا العلم، ويمدوا يد العون، ويعالجوا المرضى، ويحفروا الآبار، ويعلمون الناس الخير، وفي إحدى البرامج الحوارية الشهيرة على قناة معروفة خرج الشيخ عبدالرحمن السميط ليتحدث عن تاجر سعودي دفع إليه مبلغ ألف مليون (مليار) ريال سعودي ليصرفها على الدعوة والإغاثة في أفريقيا.
وهناك في أقاصي بلاد جنوب شرق آسيا وصلت قوافل الإغاثة والتعليم والنجدة، وفي بلاد باكستان وأفغانستان وبنغلاديش وبورما وكشمير، وفي كل بلد إسلامي في الشرق والغرب، وحين جاءت نذر الحرب وما أعقبها من اجتياح صربي وحشي لبلاد البوسنة والهرسك كانت الإغاثة السعودية تترى بالأموال والأطباء نجدة لإخوانهم من المسلمين، وفي بلاد الشيشان حين مسّهم بلاء الروس وجحيمهم كانت يد السعوديين الآسية ممتدة بسخاء وكرم فياض، وكذلك في الصومال حين وقعت النزاعات ودقت طبول الحرب ودارت رحاها بمعارك طاحنة ضروس كانت الإغاثة والنجدة حاضرة، وفي النيجر حين حصلت المجاعة الضارية.
إنك لن تجد بلداً في أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً إلا وصله خير هذا المجتمع وبرّه، ولن تجد شعباً لم يجُد عليه محسنو هذا المجتمع ورجاله بعطائهم استجابة لله أولا ثم لداعي النخوة والنجدة ثانية، لقد كان لهذه النجدة والهبّة والدعم دور إيجابي في تحسين صورة المملكة وأفرادها خارجياً لدى الشعوب الأخرى، وكذلك لنقل الصورة الحقيقية للمجتمع المتكافل المتعاضد مع إخوانه في جميع بلاد الدنيا، ذلك المجتمع المعطاء الذي يحب الخير للناس ويحرص على هدايته وإسعادهم بماله ونفسه ونفيسه.
وخير الناس من كان أنفع لأهله وجيرانه، لهذا فإن العمل الخيري الداخلي كان سمة بارزة لعامة أفراد المجتمع يتقدمهم في ذلك الدعاة والمصلحون الذين جعلوا جزءاً كبيراً من حياتهم في العمل التطوعي والخيري، سواءً من خلال مساعدة الناس والشفاعة في قضاء حوائجهم، أو من خلال التعليم والتدريس دون ابتغاء أجر على ذلك أو نصيب من الدنيا.
لقد ساهمت المؤسسات الخيرية الكبرى في إحداث نقلة نوعية مهمة في العمل الخيري التطوعي، فصرنا نسمع عن المبادرات الإيجابية لتعليم المحتاجين، وإكسابهم الحرف، وتطويرهم وتدريبهم ليكسب من صنع يده ويأكل من كده مستغنيا بذلك عن الناس عافّاً نفسه عنهم كافّاً لها، كما أن تلك المؤسسات ساهمت في تدريب الأشخاص والكوادر وتخريج مجموعات كبيرة من العاملين في القطاع الخيري ممن لديهم الخبرة الكافية، والتدريب النوعي، والعناية الخاصة.
إنَّ مجتمعاً كالمجتمع السعودي بتعدد قبائله وتباعد نواحيه لحريٌّ بتراخي روابطه وأواصره الاجتماعية، غير أن ذلك لم يكن بفضل الله، فانتشر في الناس حب البذل والخير وإيصال المعروف لجميع النواحي والمحافظات، وأخذوا يبحثون عن الفقراء في القرى والهجر يقصدونهم بالصدقة والنفع وإيصال المعونات، وانتقل التاجر والمُحسن من بذل ماله إلى قيامه بنفسه في البحث عن الفقير والمحتاج ليعظم بذلك أجره، ويشعر بلذة العمل الخيري والتطوعي فتسكن نفسه وتستقر روحه.
ما كان لكثير من هذا أن يتم لولا فضل الله أولاً، ثم تلك التعاليم والتوجيهات التي بثّها في المجتمع دعاة الخير والعلم الشرعي، الذين حثّوا الناس على نفع إخوانهم ومساعدتهم، لهذا وثق فيهم التجار فجعلوهم على إدارة المشاريع الخيرية وارتضوهم وسطاء في إيصال المعونات للمستحقين، ورضوا بأقوالهم وأحكامهم على الناس وتقييم مدى حاجتهم.
إنه من دواعي الفخر والاعتزاز أن يكون هذا المجتمع المحافظ واحداً من أفضل شعوب العالم بذلاً وعطاءً في الداخل والخارج، عملاً بشريعة الإسلام التي تحث على التكافل والتصدق وإعانة المحتاج، واستجابة لداعي الفطرة الإنسانية السوية التي تدعو للتعاضد بين الناس وإعانة بعضهم بعضاً.
وهذه المرأة المحتاجة أرملاً كانت أو مطلقة أو عجوزاً لتجد في الناس من يقوم بحقها ويرعى شؤونها، بل إن جملة كبيرة من برامج التوعية لتركز على أهمية صيانة حق المرأة والقيام بكفايتها وإعفافها عن مد يد الحاجة، وتغطية مصاريفها بما يكفل حاجتها وحاجة من تعول.
أما الأيتام فما يرخي الليل سدوله على يتيم إلا وقد وجد من يكفله، أو حط رحاله بمؤسسة تقوم برعايته وكفالته من المؤسسات الخيرية غير الحكومية، التي يقوم بالصرف عليها وبذل المال فيها عامة الناس من أفراد المجتمع مهما بلغت ظروفهم المادية، وقد ضخَّ أهل العلم والدعوة الكثير من الأحاديث عن فضل كفالة اليتيم ورعايته، وحثوا الناس على المبادرة بالقيام على ذلك.
والإحسان والبذل لم يبق مقصورا على صورته التقليدية من دفع المال، فقد قام كثير من أهل الخير بتعزيز ثقافة الأوقاف وبنائها ونشرها في البلاد، لتدر تلك الأوقاف ريعاً يعود على المشاريع بالنماء والاستمرار، فقامت أوقاف ضخمة تدر عوائد سخيّة تنفع الناس في أمور دنياهم ومعاشهم.
أما الشفاعة للناس والمشي في قضايا حوائجهم، والكتابة لأهل الخير في مساعدتهم فهي من أشرف ما يقوم به العلماء والدعاة والمصلحون، فقد كانوا همزة وصل بين المحتاجين والمكروبين وبين ذوي المال واليسار، فغشي الناسُ العلماءَ في مكاتبهم وبيوتهم، وصار جزء مهم من وقت العالم والداعية موقوفاً لخدمة الناس والمشي في حوائجهم ومساعدتهم بالشفاعة وقضاء أمورهم.
مهما كتبنا عن أوجه البر والخير، وطرق المعروف والفضل، فإنه لم يبق سبيل منها أو قناة إلا وجدت الناس يتسارعون نحوها يسبقهم إليها أهل العلم والفضل فيستن الناس بهم ويهتدون بهديهم، ومن أراد التأكد من هذا فإن عليه زيارة جمعيات البر والمراكز الخيرية ليرى بنفسه العاملين هناك كيف يقضون وقتهم في إعانة الناس دون تردد أو تمييز أو تبرّم.
اجتماعيّاً
قال الله تعالى معلّماً نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم وموجّهاً له: } فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربّك فحدّث{ .
لا يصلح الوطن إلا بصلاح الناس، ولن يصلح الناس إلا بصلاح المجتمع وتلاحمه وتآخيه وتواده، هذا ما وعاه العلماء والدعاة وأولوه عناية تامة وعلموا على تغذيته بكافة المعاني الإيجابية الحميدة.
أصبح المجتمع خلية نحل نشطة في البرامج النافعة التي تعمل على إصلاحه وتزكيته وتطهير أفراده، فهذه مبرات الخير وصور التكافل ونماذج البر تنتشر في كل المدن حتى وصلت إلى القرى والهجر، ونما في الناس مفهوم المساعدة حتى صار طبعا وعادة من صميم سلوكيات المجتمع الذاتية التي يفاخرون بها جميع الأمم.
وحين قامت مراكز الأحياء ومناشط التطوع ابتدرها أهل العلم والدعاة وشاركوا فيها وصاروا نماذج يُقتدى بها في تلك المراكز، وساهموا بكفاءة عالية في حل الخلافات القبلية والأسرية والإصلاح بين الناس، وصار لهم كلمة فصل مسموعة في كثير من الأمور ذات الطابع النزاعي مهما بلغت وعظمت، فشفعوا في أمور القصاص وساهموا في جمع الديات ورأبوا الصدع بين القبائل والعوائل بجاههم وشفاعتهم وأحيوا مفهوم الشفاعة الحسنة وأشاعوها بين الناس، حتى صارت مكاتب أهل العلم ملاذا للناس ينشدونهم قضاء حوائجهم وتلبية طلباتهم والمساهمة في حل ما نزل بهم من مشكلات ومدلهمات.
ومن محاسن ما قاموا به ودعوا إليه دمج المجتمع بكافة مكوناته المناطقية والقبائلية وإذابة الرواسب ونزع فتيل العصبية والمفاخرة، سواءً من خلال توعية المجتمع بذلك في الإعلام والمناشط التربوية والفعاليات المختلفة والبرامج، أو ممارسته عمليّا بالبعد عن أسبابه الداعية إليه وتوحيد فضائل المجتمع تحت راية مكونات الشخصية المسلمة المحافظة ونشر الثقافة القائمة على تفضيل الفرد بفضائله وأخلاقه بعيدا عن فضاء التعصب المقيت.
كما تسارعوا دون تأنٍّ في تنقية المجتمع من آفاته الضارة المؤذية كانتشار العنوسة وشيوع الطلاق وتفشِّي الخلاف الأسرية، فأقاموا مؤسسات عامرة تساهم في حل مشكلة الزواج عبر تسهيل سبله وتقريبه لمبتغيه والمساعدة في تحمل أعبائه، ونشروا ثقافة العلاقات الأسرية الرشيدة الواعية عبر الكتب، والبرامج، والاستشارات، ومراكز الإصلاح الأسري المتناثرة، حتى أصبحت الثقافة الأسرية المحافظة مشاعة للناس وذائعة فيهم يهتدون لموضعها بيسر وسهولة وينهلون من معينها الآمن ما يحفظ عليهم عماد بيوتهم ويقيهم عوادي الخلافات وعواصف المشاكل.
لقد عرف المجتمع نتيجة لانتشار الدروس العلمية والتثقيف الشرعي الناضج قيمة التلاحم والتواصل وأهمية الترابط الأسري والمجتمعي فانتشرت تجمعات الأسر والعوائل والصناديق الخاصة بهم، إحياءً لمفهوم العصبة وصلة للرحم ونشراً للتلاحم، وصارت العوائل يقتدي بعضها ببعض في إطلاق صناديق الأسرة وتأسيس اللقاءات الخاصة بهم، حتى أصبح صلة الرحم ثقافة للمجتمع كله، وقرّبت مثل هذه اللقاءات ما باعدته التقنية ووسائل الإعلام وتعقيدات الحياة المدنية العصريّة.
ولمّا كان المجتمع بهذه الصورة من التلاحم والتواد امتدت نصاعة مشهدهم لتشمل إخواناً لنا أصابهم بأس وبلاء وكرب، فحين حصل الغزو الباغي من العراق لدولة الكويت فتح الناس بيوتهم لإخوانهم من القادمين من لظى الاحتلال المروّع، وأنزلوهم منزلة أنفسهم وأهليهم، امتلأت البيوت بالأسر، وتشاركوا في المأكل والمشرب، وكانوا عونا لهم في الأمور كلها وبلسما شافيا يمسح عنهم وعثاء الغربة وشعثاء التشتّت، كل ذلك بنفس طيبة كريمة وأصالة وسخاء، بعيدا عن أجواء النفعية البغيضة ورجاءَ النفع الدنيوي، بل كان هبّة أخلاقيّة صرفة.
وفي مثل بلادنا المترامية الأطراف، بعيدة المناطق، كثيرة السكان، بقيَ للوالدين مكانتهم العظيمة في الأسرة وفي المجتمع، حتى صار الناس يتنافسون في بر والديهم، ويستنكرون أشد الاستنكار أقل أنواع العقوق وأضعفها تأثيراً، ولم يعد الرجل يخاف على نفسه حين يبلغه الكبر وينزل به الشيب لما يراه من احتفاء الأبناء بوالديهم ورعايتهم لهم حتى في أقسى الظروف الصحية.
ومن الذي يُغفل أو ينسى المراكز الخاصة بالزواج؟ تلك المراكز التي يشرف عليها ويقوم بأمرها الدعاة والمربّون والتي تلتمس حاجة الفرد للبحث عن الزوجة الصالحة وتعينه على إتمام أموره وإنجاح مقاصده، إنها بحقّ واحدة من مفاخر المجتمع ودليلاً على فضله فقد كثرت وانتشرت لتعين الشاب على زواجه بدلالته على الأسر المحافظة المعروفة بالخلق، ثم تقف معه في تيسير أعباء الزواج وتكاليفه، كما تعينه على بناء منظومة ثقافية واعية عن إدارة حياته الزوجية والعمل على تلافي منغصاتها ومكدراتها.
إن إعفاف الشاب والفتاة ركيزة ضرورية من ركائز المجتمع المستقر الآمن، وهو ما تفطن له العلماء والمصلحون فضربوا فيه بسهم وافر، وعلموا على تيسيره وتسهيله حفظاً للمجتمع ولأفراده، ونشراً للعفاف والفضيلة.
ولا يصلح المجتمع شيء كنشر الفضيلة فيه، وإعلان الحرب على الرذيلة فهي من أعظم ما يمحق البركة في المجتمع ويزيل طهارته ونقاءه، لهذا غدت الفضيلة مطمحاً للناس وخلقاً يعمرون به أنفسهم وسيَرهم، وأصبحوا ينفرون أشد النفرة عن الرذيلة ويحاربون مناظرها ومظاهرها، واهتم بذلك العلماء والدعاة والمصلحون فنشروا ثقافة الفضيلة والعفّة وأحيوها بين أوساط الشباب وأكدوا على مضامينها تأكيدا شديداً لأنها أساس إصلاح المجتمعات، وقدموا البرامج العملية والعلمية لحماية النفوس من الانحراف في مستنقع الرذيلة والتعلق بالشهوات المحرمة والمؤذية للنفوس والعقول والأوراح، فصارت مظاهر الانحراف عن سبيل الفضيلة سلوكاً قبيحاً ينفر عنه المجتمع ويحاربه، ومن وقع في شيء من ذلك حاول إخفاءه لئلا يسقط من أعين الناس فيزدرونه.
وإذا كانت الرذيلة قبحاً تاماً فإن هذا لا يعني ترك من وقع فيها دون توعية أو تنبيه ومجافاته، لهذا كان للكثير من أصحاب السلوك المنحرف أو الفعل الخاطئ برامج تخصه لتوعيته واحتوائه والنهوض به من جديد ليكون شخصا فاعلا نافعاً لمجتمعه، فأقيمت برامج خاصة لتأهيل المدمنين ودمجهم في المجتمع من خلال مخالطتهم وتهيئة بيئة ذات طابع سلوكي قويم للاندماج فيه، كما انتشرت البرامج الخاصة بالتزكية الأخلاقية وطرق ترك الآفات الاجتماعية الضارة كالغزل والمعاكسات والعلاقات المحرمة، وانتشرت ثقافة التعافي من التدخين سواء من خلال الفتاوى التي تحرمه وتحرم بيعه أو من خلال نشر العيادات التطوعية التي تساهم في تركه وإعادة الجسم لحالته الصحية الطبيعية والتعافي من أعراضه الانسحابيّة.
نحن لسنا مجتمعاً فاضلاً، ولا مدينةً تسكنها الملائكة، لكنّنا ندرءُ بالفضيلة في نحر الشر، وندفع بالتلاحم والبر وصلة الرحم أسباب العذاب، ونعمر الدنيا بمظاهر التكافل، ونلغي أسباب التفرقة القائمة على أساس العصبية المقيتة والتفاخر المذموم، ونعطف على الصغير، ونرحم الكبير، ونمسك بمقود العفاف حين يكون أمامنا منعطف الرذيلة.
كانت هذه بعض مظاهر الخير في المجتمع، ظهرت آثارها جليّة واضحة ولمسها الناس جميعاً.
تعليمياً
لئن كان علم الشريعة وأحكامها نهجاً يهتديه الناس في هذه البلاد وقبساً من نور الصحوة المباركة، فإن هذا لم يُلغ بقية العلوم والتخصصات المهمة التي يحتاجها الناس أو يُهمشّها، من علوم الدنيا وآلة عمارة الأرض، وخطط المدنية وأساليبها، وعلوم الطب وفنون الجراحة، وعلوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والتقنية والحاسب، والعلوم الإنسانيّة والتاريخيّة، وغير ذلك من أفانين التخصصات بكافة فروعها وتشعباتها.
فمن تأمل في مخرجات التعليم العالي بكافة كلياته وأقسامه ومسارات تخصصه الدقيقة وجد الشباب المتدين حاضراً في كل ذلك، فلم تكن صورة المعرفة والعلم لدى أولئك الشباب الذين قضوا جل حياتهم في بيوت الله يحفظون كتابه، وفي محاضن التربية يتثقفون بمكارم الأخلاق وينتحلون معاليها أن علم الشريعة وحده هو المبتغى، بل ضربوا بسهم وافر في التخصصات الأخرى وتخرجوا في الجامعات العلميّة وبمعدلات مرتفعة أهلتهم ليكونوا على رأس العاملين لاحقاً في مجال التعليم العالي كأكاديميين مرموقين في التخصصات المختلفة.
إن هذا التهافت على التخصصات العلمية المختلفة لم يكن نابعاً عن رغبة ذاتيّة فحسب، بل كان تشجيعاً من المحاضن التربويّة والقائمين عليها، فقد عرف أولئك أهمّية العلوم الطبيعية وغيرها مما يساهم في رفع الكفاءة المعرفية المختلفة التخصصات في أفراد هذا المجتمع، فرأينا التخصصات الهندسية والرياضيّة والعلوم والطب والإدارة تمتلئ بالشباب المتديّن الذين تضلّعوا بالعلوم الشرعية في حلق العلم ثم أتمّوا سبيل المعرفة بالتخصّصات الأخرى.
إن رفع مستوى التحصيل العلمي لأفراد المجتمع لم يكن مقصوراً على مجرّد التحفيز والحث على الالتحاق بالتخصصات المتنوعة، بل إن حلق القرآن والمكتبات والمراكز الصيفية وغيرها من المحاضن التربوية كانت مأوى للكثير من الطلاب للاستزادة من دروس التقوية المجانية والإفادة من الطلاب المتفوقين، فاستطاعت تلك الأنشطة التربوية أن تدفع مستوى التحصيل العلمي للمضي قدماً في الإبداع العلمي، وكانت تلك التجمعات الواعية ميداناً خصباً لنشر التنافس الحميد، وتبادل المعلومة، وزيادة القدرات الفردية.
لم يكن الأمر مقصوراً على الدخول لهذه التخصصات ودراستها فحسب، بل إن كثيرا من الشباب المتديّن كان يحوز على المراتب العليا في تلك التخصصات ويكون من نوابغ الطلاب فيها الذين يحصلون على الدرجات العليا، مما يؤكد تعميم الوعي لدى الشباب المتديّن فضلاً عن بقيّة الناس بضرورة تعلم هذه العلوم وبدرجة عالية من الاجتهاد ليفيد منها نفسه ومجتمعه ووطنه.
ولن يصِمنا الناس بالمبالغة إذا قلنا بأن شريحة كبيرة من الشباب المتديّن الذين ولجوا غمار التدريس والتعليم فعلوا ذلك إحساساً منهم بالمسؤولية تجاه المجتمع والقيام بتعليمه على أسس صحيحة سليمة، فقرنوا بين العلم والعمل، بين التحصيل والإفادة، بين النظريات والتطبيق، وقد كان حضورهم في التدريس في مختلف التخصصات والمناهج الشرعي منها أو العلمي أو الإنساني.
ثم لمّا بدأ المجتمع يدرك أهمية التطوير الإداري والشخصي هبَّ أولئك للاقتباس من برامج التطوير ودورات التدريب، فأقبلوا عليها إقبالاً منقطع النظير وتفوقوا في تلك المجالات، وأصبحوا وقد تدربوا إدارياً وذاتياً وفق أحدث البرامج والدورات والنظريات الإدارية، ولم يقنعوا بذلك فقط بل أضافوا لها ترجمة العديد من الكتب الإدارية والتطويرية، وقرّبوها للناس وأضافوا عليها الصبغة الشرعية بعد تنقيتها مما لحقها من المخالفات والمحاذير الشرعيّة.
لن نكون مبالغين كذلك إن قلنا بأن أكثر الشخصيات التي برعت في مجال التطوير الإداري والذاتي هم الشباب المتديّن المحافظ فافتتحوا مراكز التدريب والتطوير وعملوا على صناعة النجاح المستقبلي بإذن الله من خلال رسم برامج عمليّة تقود المجتمع وأفراده نحو تحقيق الهدف الذي ينشدونه، ومن ثم فقد ارتضاهم الناس واستفادوا منهم لما رأوه من نجاحهم وصدقهم وتميّز عطائهم وعكفوا عليهم يتعلمون منهم أساليب الإدارة النافعة والبرامج المفيدة لتطوير حياتهم ورسم أهدافهم وإتقان التخطيط المستقبلي بشقيه القريب والبعيد.
ومن كان قريباً من المؤسسات الدعوية أو المراكز الخيرية والمبرات ونحوها ووقف على ما فيها من التراتيب الإدارية وخطط التطوير علم يقيناً ذلك الجهد الكبير الذي كانوا يبذلونه للارتقاء بمؤسسات المجتمع والنهوض بها وزيادة كفاءة العاملين فيها فضلا عن ضبط أنظمتها بأحدث النظم الإدارية والبرامج التدريبية.
إنَّ الشباب المتديّن المحافظ لم يكن حبيس كتابه الشرعي، ولا قعيد التراث فحسب، ولا منقطعاً عن الحاضر بغيبوبته في الماضي وركونه إليه كما تدّعي ذلك حفنة من الأقلام المأجورة البالية، بل اهتم بالثقافة في شتى المجالات والعلوم، وطوّر نفسه ودرّبها وزاحم في كل المجالات التي تزيد حصيلته المعرفيّة وخبرته العمليّة ليزداد نفعه ويعم المجتمع بأسره.
لم يكن التعليم والتثقيف مقصوراً على المدارس والجامعات، بل تتابع أصحاب الرسالة الهادفة إلى إقامة المنتديات والدوريات الهادفة وجلسات القراءة النافعة، فنشأت الكثير من تلك الملتقيات واشتملت على الحوارات الهادفة واللقاءات النافعة من خلال ضيوف مختلفين يمثلون أطيافاً متعددة وتوجهات شتى، ولو أتينا على ذكر نماذج من هذه اللقاءات والدوريات لضاق المقام، لكن أغلبها يعزز قيَم المجتمع ويكرّس ثقافته الشرعيّة وتوجهه المحافظ.
ثم إن هذه اللقاءات لم تكن مقصورة على المنتديات التي يملكها ويديرها الشباب المتديّن الواعي فقط، فإن الكثير من الدعاة والمثقفين المحافظين شارك بكثافة وفاعلية في الندوات والمحاضرات الثقافية في الأندية الرياضية والتجمعات الأسرية والمستشفيات والأنشطة الطلابية في الجامعات وغيرها فانتشرت إعلانات محاضراتهم وذاع صيتها وطوّفت في مختلف أرجاء البلاد، فقد كانوا يسارعون بالتلبية للمشاركة فيها ونشر الرسالة النافعة التي يحلونها ونشر ما يحملونه من قيم الخير والفضيلة والتربية النقية.
وخير دليل على كثير مما نذكره هنا هو حركة الكتاب ومعارضه، فمن زار تلك المعارض ووقف عليها رأى لهفة الشباب المتدين المحافظ على القراءة والتثقيف الذاتي، حتى إنه ليُخيّل للناظر أنه لا يعرف القراءة في المجتمع إلا هم لكثرة ما يراه من إقبالهم على القراءة والثقافة والاطلاع والاستفادة من الوقت في المطالعة النافعة في جميع الفنون ومختلف التخصصات.
إعلاميّاً
الإعلام! هذا الثغر المهم والحصن الحصين لجميع الأمم والشعوب التي تغار على قيمها وتحرص على الرقيِّ بنفسها وبشعوبها للبلوغ نحو العلياء.
الإعلام أو القوة الناعمة كما عبّر عنها جوزيف ناي في كتابه "القوّة الناعمة" هو واحد من أهم الأدوات التي تعيد صياغة العقول وتغير الرأي العام وتدفع المجتمعات والأمم نحو التغيير بجميع أشكاله وأصنافه.
وعلى الرغم من تضاءل الفرص الكبيرة في السيطرة على هذا المقدّر المهم من مقدرات المجتمع لقوة المنافسة فيه وندرة رؤوس الأموال الكبيرة التي تدير العمل باحترافية وإتقان وحضور كيد الأعداء الخارجي الذي يرغب في تخدير الأمة وبث الثقافة السقيمة فيه، على الرغم من كل ذلك فقد كان لأهل الخير والديانة حضور مهم ومؤثر في هذا المجال، بعد أن أدركوا أهميته وحساسيّته.
ولو ألقينا نظرة عابرة على أدوات الإعلام التقليدية كشريط الكاسيت فإن هيمنة شريط الكاسيت المحافظ وما يتضمنه من مواد شرعية أو تربوية أو علمية أو وعظية أو ترفيهية كانت واضحة للعيان، فقد انتشر الشريط الإسلامي في جميع البيوت وكافة المناطق حاضرة وبادية، مدينة وقرية، وصار الاستماع لها نوعا من الثقافة اليومية للمجتمع حتى صار الدعاة والمشايخ الذين يقدمون المواد في تلك الأشرطة هم رموز المجتمع وقادة التأثير فيه لما لموادهم من الانتشار والحضور والمكانة الكبيرة.
وامتازت هذه الأشرطة بتنوع مضامينها وتعدد محتوياتها فلم تكن مقصورة على الوعظ المجرد، أو العلم الشرعي فقط، بل احتوت على حل المشكلات التربوية وتضمنت مناقشة جملة كبيرة من هموم المجتمع فاخترقت أسوار البيوت ولمست جراح الناس وساهمت في رأب الصدع الأسري وأدت دورا تثقيفا ناضجا، حتى إنها ساهمت في نشر الترفيه المحافظ والترويح الخالي من المحاذير من خلال أشرطة الأناشيد والشعر والقصائد النبطية وغيرها من المواد التي كانت ترسم البسمة على الوجوه وتدفع الرتابة والملل عن النفوس.
لقد صار المشايخ والدعاة الذين انتشرت أشرطتهم هم قادة المجتمع العلمي والثقافي، إنهم بكل دقّة وموضوعية رموز المجتمع وأنجمه العلمية والثقافية، فتداول الناس علومهم وثقافاتهم وحفظوا أساليبهم ورددوا عباراتهم وتأثروا بهم تأثراً كبيراً.
وحين أذن الله ببدء غروب شمس الكاسيت وبدأت أنجم البدائل الأخرى تظهر، وصار الناس يقبلون على الأقراص الإلكترونية وغيرها من الوسائل، كان حضور أولئك العلماء والدعاة وأهل الفضل حاضرا بذات القوة والتميز السابق، فحولوا موادهم إلى الوسائل التقنية الجديدة وابتدروا بالعمل عليها، حتى صارت عامة الدروس والمحاضرات وبرامج التوعية والتثقيف منتشرة فيها مبذولة لكل راغب.
وعلى مستوى المجلات الهادفة فقد رأينا جملة وافرة منها أخذت طريقها لعقول الناس وأذهانهم بعيداً عن منافسة الصورة الهابطة والخبر المسيء، واتسمت هذه المجلات ومن قبلها تلك الأشرطة وغيرها بأنها كانت من صميم ثقافة المجتمع وعلومه الذاتية، واتسمت كذلك بأنها لم تخرج عن أنظمة البلاد وقوانينه المعمول بها، فتكامل دورها بذلك وحققت أهدافها دون وجود ما يعيق حركتها أو يعكر صفو انتشارها.
لقد تمكنت تلك الأدوات الإعلامية التقليدية سابقاً أو الأخرى الحديثة لاحقاً من ترميز الدعاة وأهل العلم والفضل والثقافة من السعوديين داخلياً وخارجياً فانتشر حضورهم في كثير من البلاد الإسلامية، وتعدى نفعهم حدود مجتمعهم ليكونوا على رأس الشخصيات المؤثرة في المجتمعات الإسلامية المختلفة، سواء كانوا شخصيات علمية يحرص الناس على الإفادة منها في الإفتاء والعلوم الشرعية، أو في الأدب والثقافة العامة، أو في الوعظ وتهذيب السلوك وجوانب التربية العامة.
غير أن الحدث الأبرز كان الاستثمار في ***** حزمة قنوات هادفة محافظة، تدرأ عن البيوت والمجتمعات خطر الإعلام التغريبي أو الهابط، فجاءت فكرة ***** مجموعات قنوات المجد الفضائية، وهي القنوات التي حملت معها البذرة الأولى للقنوات الإسلامية الهادفة المحفظة الخالية مما يعكر صفوها من المحاذير الشرعية أو المضامين السلبية أو المشاهد الخادشة.
استطاعت قنوات المجد أن تؤسس لعهد جديد من الإعلام المحافظ الهادف، فسنة سنة حسنة عمل بها من جاء بعدها من القنوات في كثير من بلاد المسلمين الأخرى، وأخذوا يحاكون تجربتها ويمشون على خطاها ونهجها، ومع ما لاقته قناة المجد من الترصد والأذى والحرص على الإساءة إليها وتنفير الناس عنها من قبل كثير من الأقلام المأجورة والدعوات المضلّلة إلا إنها حجزت مساحة كبيرة في فضاء الإعلام العربي الإسلامي عموما والمجتمع السعودي خصوصاً.
لم تكن المجد مجرد قنوات هادفة مجردة، لقد كانت منجما ومصنعا لإنتاج البرامج وإعداد المذيعين وتخريج الإعلاميين، وكان هذا نابعا من صميم وعي القائمين عليها والمتمثل في ضرورة الوصول لمرحلة الاكتفاء الذاتي من البرامج والمذيعين والعاملين في الحقل الإعلامي، تمهيدا تصدير هذا الجهد للآخرين والبدء بتكوين قطاعات إعلامية متعددة لذات الغرض والهدف.
لقد تحولت المجد بفضل الله تعالى من ثقافة الاستيراد للبرامج الدخيلة على الثقافة والمجتمع إلى ثقافة إنتاج البرامج وإعداد المادة الإعلامية الكاملة فساهمت في صناعة الحدث الإعلامي وملأت فراغه بالمواد الخاصة المنتجة إنتاجا كليّا بما يتفق مع رسالتها وثقافة المجتمع المحافظة والمتمسكة.
وإحقاقاً للحق فلقد كانت قناة المجد ميداناً خصباً فسيح الأرجاء لتوطين الإعلام المحافظ، وإخراج جيل واعٍ مدرّب من الشباب المحافظ الذي يهتم بالمجال الإعلامي وينافس الآخرين في حسن تدريبه ونبوغ صفاته الشخصية ومهاراته الخاصة.
لقد استطاعت باقة قنوات المجد أن تعكس صورة نقيّة عن التاجر السعودي المحافظ الذي يستثمر أمواله في الإعلام الهادف النقي الذي يخدم الإسلام وقيَمه ودعوته، وهي الصورة التي أصابها خلل وتشويه بعد أن امتدت أيدي البعض لإقامة قنوات تسيء للملكة من خلال ما تبثه من البرامج الخادشة والصورة الهابطة والبرامج القادحة في قيم المجتمع وفضائله، تلك القنوات التي دأبت على تشويه صورة المجتمع المحافظ النبيل بتقديمه في قالب من السوء والتفاهة لا تعكس بحال حقيقته ومعدنه الأصيل الزكي.
وفي فورة الإقبال على تقنية الإنترنت والإفادة منها في مجال الإعلام وجدنا الشباب المتدين المحافظ قد ملأ جنبات تلك المواقع وشارك فيها يحمل رسالته النافعة ويعكس صورة بلاده وثقافة مجتمعه بالمناقشات الهادفة، والحوارات البناءة الإيجابية، وأطلقت الكثير من المواقع التي باتت مع مرور الوقت من كبريات المواقع الإسلامية والعربية، قام ببنائها وإدارتها والإشراف عليها كوكبة من الشباب المتدين، فقرّبوا العلم للناس، ونشروا الثقافة السليمة، وأبرزوا الجوانب النقيّة للإعلام الإلكتروني البعيد عن مواضع الصخب ومراتع الشهوة ومعين النشوة المحرمة.
ومن تابع الحوارات في المنتديات الإلكترونية ونظر في المواقع العامة أدرك حجم الحضور الكثيف والغني للشباب المحافظ فهو يكتب ويشارك ويناقش بكفاءة عالية وحجة حاضرة وأدب ورقي يعكس حقيقة صورة بلاده وتربيته السليمة التي تلقاها في جميع محاضن التربية المتعددة في المجتمع بدءاً بأسرته ثم مدرسته ثم حلقات القرآن ومكتبات التربية مرورا بغيرها من المحاضن المتعددة.
إن رسالة الإعلام الحقيقية هي تلك التي تعكس صورة البلاد الناصعة، صورة المحافظة والعفاف والكرم وانتشار القيم والأخلاق وظهور التديّن، هذه هي الرسالة الحقة للإعلام، وهو ما ساهم في تكريسه والتأكيد عليه تلك القنوات الإعلامية المحافظة الهادفة، والمواقع الإلكترونية النافعة، التي عكست صورتنا الحقيقية لعامة أهل الأرض، ورفعت أسهمنا عاليا، وأعادت للمجتمع نقاءه وزكاء معدنه بعد موجات من التشويه المتعمد الذي لحق تلك الصورة بسبب ما تبثه القنوات الهابطة الرخيصة.
لقد أضحى هؤلاء الشباب حقاً سفراء خير ورسل قيَم، عكسوا حقيقة بلادهم وطبيعة مجتمعهم، ولم يرجوا من وراء ذلك شهرة أو أجراً من أحد، وكثير منهم حين ولج ميدان الإعلام ولجه وهو يستحضر رسالته النبيلة ورغبته في المساهمة في حماية المجتمع من آفات المواد الإعلامية السيئة والسلبية، ومشاركة منه في صناعة صورة زاهية لبلاده ومجتمعه وأهله جميعاً.
ومن خير ما قام به هؤلاء الإعلاميّون المحافظون أنهم ارتقوا بذائقة المشاهد والمتابع من حضيض المشاهد الهابطة ووحل المشاهد الرخيصة إلى سمو الإعلام الهادف ونقاء مضامينه، وإلى البرامج الثقافية النافعة المفيدة الجامعة بين متعة المشاهدة وتغذية العقل بالمعلومات، وتهيئة جو من الترفيه البعيد عن المحاذير الشرعية، فانتشرت بذلك فرق الترفيه التي تجمع بين اللهو المباح ورسم البسمة الصادقة وبين التوجيه بالطرق غير المباشرة، وأصبحنا نرى هذا النوع من الترفيه يملأ الأسواق وينتشر في الاحتفالات والمناسبات، ولم يقتصر حضورهم على مجتمعنا المحلي فسحب، بل انتشروا في دول الخليج وصار الناس يحرصون على المشاركة في فعالياتهم.


ثقافيّا وأدبيّاً
إذا كنّا قد أشبعنا القول في انتشار العلم وشيوع المعرفة، وسطّرنا كثيراً من صور الاهتمام بالمعرفة والتعليم، والإقبال على صور الإعلام الهادف وأدواته المختلفة، فإن من النتائج الحتمية لكل ذلك أن تسود المجتمع ثقافة ذاتيّة ذات مضامين نافعة محافظة بعيدة عن أتون المخالفات والتوجهات المنحرفة.
لقد عمّت أرجاء البلاد في شتى نواحيها القريبة والبعيدة المكتبات التجارية والأخرى العامة المُتاحة للقراءة، وأصبح الكتاب في كل بيت وتحت كل يد، وصارت القراءة مورداً رئيساً للاستزادة من المعرفة، بل إنَّ الكتاب المحافظ ذو المحتوى العلمي والثقافي والفكري المنضبط هو الذي يقبل الناس على قراءته، ويحرصون على اقتنائه، وكان للعلماء والدعاة كلمتهم في الحكم على الكتب والمؤلفات، وكثيراً ما نرى الناس تقبل على العالم والداعية تسأله وتستشيره في قراءة الكتب ولمن يقرؤون.
من عرف ثقافة المجتمع وما هي مواردها الأصيلة عرف سر الإقبال العظيم والمنقطع النظير على كتب الشيخ الأديب علي الطنطاوي، والشيخ الدكتور عايض القرني، ومؤلفات الشيخ محمد الغزالي، وروائع المنفلوطي، ومؤلفات مصطفى صادق الرافعي، وغيرهم من المؤلفين أصحاب الثقافة المنضبطة البعيدة عن دغل التخليط ومناهج الضلال.
والصورة الدقيقة للثقافة والفكر في المملكة هي التي تعكس توجه المجتمع وديانته، فالغلبة والانتشار للكتب الشرعية أو الفكرية ذات الطابع التوثيقي البعيدة عن المضمون التحرّري أو المخالف للقواعد والضوابط الشرعية.
لهذا عرف الناس أمثال الشيخ المفكّر الدكتور سفر الحوالي، والشيخ الدكتور سلمان العودة، والشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي، والأديب الشيخ الدكتور عايض القرني، وأقبل الناس كذلك على رابطة الأدب الإسلامي التي تكونت ونشأت في الرياض، وصار لها أعضاء كثيرون وندوات ومطبوعات.
ولما لعموم اللغات من دور مهم في تعزيز الهوية وترسيخها وبناء معالمها فإن اللغة العربية كانت حاضرة بجلاء ورسوخ في المحتوى الفكري والثقافي، أو في أنماط الأدبيات بمختلف إنتاجها شعراً ونثراً، حتى إن اللهجات العامية باتت ضرباً من الألغاز والأحاجي ينأى الناس عنها بعد أن وحدتهم اللغة العربية الفصحى بشموخها وجلالها وجمال وقعها.
من الحسنات الظاهرة للتوجه المحافظ للمجتمع السعودي ولعلمائه ومفكريه ومثقفيه أنهم أوصلوا ثقافتهم بعمقها الشرعي واتجاهها السلفي لكافة الأقطار الإسلامية، فأصبح الناس يقرؤون في الفكر والثقافة والأدب للكتاب المتقنين المتفنّنين من أصحاب المدرسة السلفية التي جمعت جودة الأسلوب وإتقان المادة وسلامة المنهج وتوثيق المعلومة وتحريرها، وباتت الفعاليات والندوات والمؤتمرات الثقافية ميدانا مهما لإيصال المصطلح الشرعي وحضور الرؤية السلفية الشمولية، سواءً كان ذلك عن طريق الأفراد من المفكرين والمثقفين والأدباء، أو عن طريق الجامعات والكليات التي تهتم بإيصال الرؤية الشرعية والتصور السلفي.
لقد ظلَّ الأدب الإسلاميّ محط حرب ضروس يُدير رحاها طوائف ممن نابذوا الأدب المحافظ الذي يحترم توجه المجتمع وذائقته العفيفة، وأخذوا يشككون في رسالته وقدرته على المقاومة والبقاء في ظل الزيف الذي يمارسه الأدب المفتوح بتوجهاته الوضعية والواقعية وغيرها من المدارس المادية الموغلة في البعد عن الرسالة والمحافظة، غير أن ذلك الأمر لم يكن له رسوخ وحضور مؤثر في مجتمعنا بفضل الله، فقد قرأ الناس بنهم بالغ للأدباء المحافظين الكبار، وأقبلوا على شعرهم ونثرهم، ورأينا صدودا ونفرة عن شعر الفحش والمجون وأدب الفضيحة وقصص الخيانة.
وبقيت المحاضن التربوية وبرامج التوعية بثبات وتماسك تؤكد على أهمية تنقية الأدب مما لحق به من رواسب الانحلال وشوائب الانحراف، وقد نجحت في ذلك نجاحا ظاهراً ملموساً، وأصبح الأدب المقروء في المدارس وغالب البيوت أدباً نقيّاً محافظاً، فانتشرت كتب "صور من حياة الصحابة" لعبدالرحن رأفت باشا، وصارت منهجاً للقراءة في المدارس، وأقبل الناس يقرؤون لعلي الطنطاوي، ويقتبسون من أدب عمر أبو ريشة، ويحفظون أشعار الدكتور زاهر الألمعي، ويقرؤون في قصص نجيب الكيلاني وعلي أحمد باكثير، ويتهجون أسلوب سيد قطب وأخيه محمد في الصياغة الأدبية، ويحاكون الرافعي وقلمه السيّال، ويخضعون لأدب أبي الحسن الندوي.
وبالرغم من الشهرة الفائقة لنجيب محفوظ ولطه حسين ونزار قبّاني والبردّوني وغيرهم من ذوي الأدب الموغل في التحرّر والمستدبر لنظام الشرع وهدي القيَم إلا الناس نفرت عن قراءة أدبهم، وسمت بأنفسهم وذائقتهم عن التلطخ بما حوت رواياتهم من القيم المنحرفة والمضامين الزائغة، وغير أولئك من مشاهير الأدباء في العالم العربي الذين لفظهم المجتمع واستدبر مؤلفاتهم ولم يعبأ بها.
إن الأدب الحقَّ هو الأدب الذي يعزز القيم ويغرس الفضائل ويحيي الحق في النفوس.
إن الأدب النافع هو ذلك الأدب الذي يجعلك تطرب وتهش دون أن تفقد نقاء روحك وصفاء ذاتك.
إن الأدب الوقور هو ذلك الأدب الذي تستفزك كلماته بجمالها ووقعها الآسر، دون أن يوقعك في مهابط السوء ومهاوي التحرر.
هذا هو الأدب الذي دعا إليه أهل العلم والدعاة والمصلحون، أدب يعزز هوية المجتمع، وينعكس على النفوس بزيادة وعيها القيَمي، لا الأدب الذي يخلع تاج الفضيلة ورزانة الخلق الرفيع، ليتحوّل إلى نوع من قلّة الأدب والحياء.
ومن الجدير بالذكر أن كليّات اللغة العربيّة في الجامعات السعوديّة كان لها دور رفيع في نشر ثقافة اللغة الفصحى، وإحياء النطق بها، وفي الجامعة الإسلامية أنشئ قسم خاص لتعليم العربيّة لغير الناطقين بها من حديثي الالتحاق بالجامعة ليعتادوا اللغة السليمة وينطقوا بها، فاجتمع الطلاب هناك على لغة عربية واحدة تنادوا بها وتسامروا عليها وصارت بينهم رحماً ونسباً.
خاتمة
إن هذه البلاد الطيبة وأهلها الكرام ليسوا سوى ثلة يسيرة من مجموع المسلمين المنتشرين في شتى أرجاء المعمورة، غير أن ما فيهم من المحامد وما لديهم من المناقب العلمية والخصال الأخلاقية الفضيلة لمدعاة للاعتزاز والفخر: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا).
وهذه الجوانب الإيجابية الوضّاءة للمجتمع ما كانت لتكون لولا أن هيّأ الله أهل العلم والدعوة والفضل ووفّقهم للقيام بواجبهم تجاه بلادهم ومجتمعهم بنشر العلم والحكمة والمعروف وإشاعة الخير وإذاعة الهُدى، وتصحيح ما يرونه من الأخطاء والتجاوزات، فبذلوا وقتهم وأعمارهم لخدمة دينهم وبلادهم ومجتمعهم، فأثمر ذلك وأينع فرأينا خيراً وفيراً واعتدلاً وعلماً وهدْياً وتديّناً ومحافظة يغبطنا عليها إخواننا المسلمون.
لا ريب أن هذه الإضاءات العابرة لا تعني أننا صرنا من الفضيلة والكمال بحيث تخفى مثالبنا وعيوبنا، لا والله، غير أننا نستجمع قوانا لتصحيح ما نراه خطأ ونعده تقصيراً، ولا نصر عليه أو نجعله حسناً حميداً وهو عند الله قبيح منكر.
والحقيقة التي لا تقبل الطعن أو القدح أن المجتمع بلغ من النضج والنقاء مبلغاً عالياً، وهو ما يحاول أعداءه أن ينقضوا عليه ويهدموا بنيانه الشامخ بنشر نقائضه من الفكر المخالف، والدعوات التحرّرية، وسلب العلماء والدعاة وأهل الفضل مكانتهم من خلال الطعن فيهم والتشكيك في مواقفهم والضرب بينهم وبين ولاة الأمر عبر اتهامهم بالغلو وإخفاء الفكر المتشدّد، وإنكار محاسنهم اللائي لا تكاد تخفى على أحد.
ولو جئنا نستقصي مناقب العلماء ودورهم، ومحاسن حال المجتمع وما بلغه من الرشد والنضج والوعي الشرعي والأخلاقي المنضبط لاحتجنا إلى أسفار كثيرة تستوفي ذلك، لكن حسبنا ما ذكرناه في هذه الورقة الموجزة المتواضعة، وهي جهد متواضع كالتمهيد بين يدي من أراد إشباع الموضوع بحثا وكتابة وتقريراً.
إذن لماذا يكره بعض الكتّاب هذه المنجزات الضخمة؟
ولماذا يحرصون على الطعن في جهود العلماء والمثقفين والدعاة من الحريصين على سلامة بلادهم ونقائها وطهارتها بالتمسك بالخلق الكريم والتزام الدين الحنيف؟
ومن المستفيد من الهجوم الضاري على أخلاق المجتمع وقيمه ونظام حياته؟
إذا كانت هذه المنجزات هي صيرورة طبيعية لحركة العلم الشرعي وطبيعة المجتمع السعودي تلاقت مع دستور البلاد الحاكم بالإسلام وعليه تمت البيعة بين ولي الأمر وبين عامة الناس، فلماذا ينقلب عليها البعض؟ ويلمز أهلها والمساهمين فيها من العلماء والدعاة وأهل التربية والفضل؟
إنا لندرك وجود فئات من الناس حصل لديهم خلط وتشويه لما يلقيه الإعلام في روعهم من الشبهات والتضليل، فاختلطت عليهم الصورة وتشابه عليهم الامر، وهم بحاجة ماسة لقراءة ما ذكرناه في السطور الماضية ليقفوا على شيء من الحقيقة، ويدركوا جهود أهل العلم وأثرهم الكبير في حماية المجتمع وصيانته والعمل على تطويره وترقيته بما يضمن سلامة التوجه الشرعي المحافظ ويضمن استمرار عملية التنمية وتدفقها السليم.
كما أننا نعلم بأن هناك أقلية دائبة الطعن على خِلال المجتمع وخِصاله الكريمة، يؤذيهم أشد الأذى انتشار الفضيلة والعفاف وظهور العلم الشرعي ومنارات الخير، وما أصابهم هذا الحنق والغيظ إلا لما عشعش في نفوسهم وصدورهم من المذاهب الباطلة والأفكار الضالة المنحرفة، فجعلوها معايير الحكم على المجتمع والناس فلفظت صدورهم براكين الحقد وحِمم الكراهية فأرجفوا في الصحف والقنوات يلبّسون على الناس الحقيقة وينشرون الإفك والكذب ويخلطون الحقائق ويموّهون الأمور.
هؤلاء يصيبهم موفور الأذى النفسي حين يتصل أمر الفضيلة ويمتد، ويعتلّون أشد العلل وهم يقفون على منارة العلم الشرعي ترتفع راياتها ويقوم سوقها، ويغتاظون إن حكمت الشريعة حياة الناس بكل تفاصيلها ودقائقها، فما أشد بلاء الأمة بهم والله! وما أتعس نفوساً هذا غاية مرامها أن تذوي أحكام الشريعة ويخبو نورها ليحل محلها التحرّر والتبعيّة للفكر الغربيِّ.
والله الموفق والهادي لسواء السبيل.


منقول وهو من إعداد مجموعة من المهتمين


من هنا http://roaa.ws/1057/1959/1352/2204.aspx
0
843

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️