(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65")
سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإن كانت لله تعالى فهي العز والشرف، وإن كانت لغير الله فهي الذل والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حظوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:
{سبحان الذي أسرى بعبده .. "1"}
(سورة الإسراء)
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خير عبده. ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال:
{آتيناه رحمة من عندنا .. "65"}
وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردت في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"}
(سورة الزخرف)
فكان رد الله عليهم:
{أهم يقسمون رحمة ربك .. "32"}
(سورة الزخرف)
أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك؛ لذلك قال تعالى:
{آتيناه .. "65"}
نحن، وقال:
{من عندنا .. "65"}
فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها:
{وعلمناه من لدنا علماً "65"}
أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:
{إنك لن تستطيع معي صبرا "67" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة.
(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا )
كأن موسى عليه السلام يعلمنا أدب تلقي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطف معه واستسمحه بهذا الأسلوب:
{هل أتبعك .. "66"}
والرشد: هو حسن التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:
{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .. "85"}
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
{وقل رب زدني علماً "114"}
لذلك يقول الشاعر:
كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي
لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً.
والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال".
(قال إنك لن تستطيع معي صبراً"67") هنا يبدأ العبد الصالح يملي شروط هذه الصحبة ويوضح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة علمه ومذهبه، فمذهبك غير مذهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا علم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عذراً على عدم صبره معه؛
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"68")
فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ
أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير. لقد تجلى في قول الخضر:
{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
(سورة الكهف)
مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟
(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمراً"69")
أي: أنا قابل لشروطك أيها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدم المشيئة فقال:
{إن شاء الله "69"}
ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه
{صابراً .. "68"}
وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور.
(قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً"70")
وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة.
>>>>>>>>>
(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65")
سبق أن تحدثنا عن...
سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإن كانت لله تعالى فهي العز والشرف، وإن كانت لغير الله فهي الذل والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حظوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:
{سبحان الذي أسرى بعبده .. "1"}
(سورة الإسراء)
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خير عبده. ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال:
{آتيناه رحمة من عندنا .. "65"}
وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردت في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"}
(سورة الزخرف)
فكان رد الله عليهم:
{أهم يقسمون رحمة ربك .. "32"}
(سورة الزخرف)
أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك؛ لذلك قال تعالى:
{آتيناه .. "65"}
نحن، وقال:
{من عندنا .. "65"}
فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها:
{وعلمناه من لدنا علماً "65"}
أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:
{إنك لن تستطيع معي صبرا "67" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة.
(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا )
كأن موسى عليه السلام يعلمنا أدب تلقي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطف معه واستسمحه بهذا الأسلوب:
{هل أتبعك .. "66"}
والرشد: هو حسن التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:
{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .. "85"}
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
{وقل رب زدني علماً "114"}
لذلك يقول الشاعر:
كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي
لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً.
والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال".
(قال إنك لن تستطيع معي صبراً"67") هنا يبدأ العبد الصالح يملي شروط هذه الصحبة ويوضح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة علمه ومذهبه، فمذهبك غير مذهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا علم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عذراً على عدم صبره معه؛
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"68")
فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ
أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير. لقد تجلى في قول الخضر:
{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
(سورة الكهف)
مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟
(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمراً"69")
أي: أنا قابل لشروطك أيها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدم المشيئة فقال:
{إن شاء الله "69"}
ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه
{صابراً .. "68"}
وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور.
(قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً"70")
وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة.
>>>>>>>>>