رحيل5 سابقا
رحيل5 سابقا
رائعه اين البقيه...........
ابغى اكمل دموعي يالله!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
المشتاقة الى الجنه
اعتذر والله لتأخري حسبت ان لااحد يتابعني :


الجزء الثالث



النظر في كل شئ... إنسان يحبة ويثق برأيه ... ترى لو كانت أمي أبدت رأيها أفقت على دنيا غير الدنيا وعالم غير العالم الذي عرفته وعشته... أشقائي وشقيقاتي وقد تفرقوا بين بيوت أزواجهن وزوجاتهم وفى السفر للدراسة وأمي التي فقدتها نهائياً بالموت... ماتت حزناً وكمداً... ماتت تكابد آلامها الكثيرة بدءاً بزواج أبي من أخرى غيرها وانتهاء بأمراضها التي لا تحصى... ماتت بعد أن أعياها الدواء وقتلها دورها الهامشي في الحياة فلا هي أم ولا زوجة ولا ابنة... هي كائن مشوه لم يعرف السبب الأساسي من وجوده، تماماً كالزائدة الدودية التي لا يعرف لها فائدة حتى الآن ... ماتت بعد أن ظلمتها الحياة وقهرها الزوج وتجاهلها الأبناء... ماتت دون دمعة ألم ولا كلمة رثاء... ( ارتاحت من الدنيا) كلمة قالها كل من عرفها .. لكني بكيتها .. بكيتها كثيراً... ليس لأنني اعتدت البكاء لكنني أشفقت عليها... نوع من الشفقة المرة اجتاحني على مصيرها، فقد عاشت وماتت دون أن تذوق طعم السعادة... وكل لحظاتها السعيدة النادرة امتزجت بمرارة غريبة... بمرارة اعتادتها ولم تنكرها.

وكما لم يقدرها أبي في حياتها فلم يرع حرمتها وهي متوفاة، فقد أحضر زوجته غداة الوفاة في نفس بيتها وحجرتها وحتى سريرها الذي تشرب دموعها وخوفها وأساها...

لم يسعنا سوى تقبل الأمر الواقع خصوصاً حينما أنجبت زوجة أبي الأولاد والبنات... علمتني الأيام والمآسي أن أعامل زوجة أبي بحياد تام، لا حب أو كراهية أو حقد ... تحاشيت كل ما من شأنه خدش القوالب وتحطيم الحدود وتجاز الأسوار، فعشنا يجللنا الاحترام المتبادل والثقة والوفاق... حتى تخرجت في الجامعة وحزت على بكالوريوس لغة عربية، فجاء تعييني في قرية تبعد عن مدينتنا عشرات الكيلومترات، حينها حدثت كبرى بيني وبين أبي... فقد رفض وظيفتي البعيدة وخيرني بين وظيفة قريبة في نفس مدينتنا أو المكوث في البيت بدون وظيفة... ناقشته ... بكيت كثيراً حتى فوجئت بتدخل زوجة أبي ... تدخلت لصالحي ووقفت تطالب بحقي في العمل ما دمت قد تعبت سنوات طويلة في الدراسة ... صمت أبي... لم أفهم هل كان صمته لاقتناعه بمنطقها... وكلامها الواقعي ورضاء واستسلاماً أم كان صمتا مغلفاً بالرفض والاحتقار والمكابرة حتى عن الرد...
ثم بعد صمت طويل قال بهدوء وربما بذل وخنوع:
- جهزي نفسك يا أحلام، غداً سأذهب بك إلى مدرستك في القرية لتبحثي حينها عن مواصلات لذهابك وإيابك مع زميلاتك والمدرسات...

جمدت واقفة مكاني لا أبرحه... ولا أستطيع حتى الآن تفسير الحالة الغريبة التي مررت بها... مشاعر غريبة اختلطت داخلي، فلم أستطع أن أشكر أبي على تنازله عن رأيه بهذه السهولة المقيتة ولا عكست عيني أية نظرة امتنان لزوجة أبي على تدخلها ووقوفها في صفي... هل ذهلت أو صدمت...؟ لا أدري لكن عادت بي الذاكرة إلى الوراء أعواماً طويلة لأسمع جملة أمي الخالدة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) فتهزني من أعماقي، تهزني في الصميم ... فلا حول لنا ولا قوة ولا رأي حتى أصبحنا كقشة في مهب الريح يتلاعب أبي بمصائرنا وقراراتنا دون أن يجد من يناقشه، من يقنعه... من يفهمه؟ من يحاوره؟

مضى وحده كران طائش لسفينة غارقة بلا دفة ولا اتجاه... تزوجت أختي بدرية دون أن تدري سوى قبل زفافها بأيام, لتكتشف الاختيار الخاطئ لأبيها وتتذوق العذاب ألواناً ثم تعود لإصلاح ما يمكن إصلاحه والانفصال عن زوجها السيئ وتصحيح مسار حياتها المقلوب، تفاجأ بقرار آخر أكثر سطوة وظلما وجبروتاً... أن تعود لزوجها رغم كل مساوئه لتعاود الحياة معه ، بكل عذاباتها وآلامها مسيرة لا مخيرة... ذليلة مهانة محطمة. فعاشت مع زوجها كما عاشت أمي مع أبي وأنجبت منه خمسة أطفال في جو من التشتت وعدم الاستقرار حتى توفاه الله في نوبة سكر لم يفق منها أبداً فأصدر أبي قراره الثاني دون أن يجد من يعارضه، أن تبقي في بيتها مع أطفالها دون زوج طوال حياتها. فالأرملة لا تتزوج مرة أخرى في عرف أبي وقوانينه الجائزة... فعاشت راضية قانعة دون أمل في شئ... أو في غذ مشرق يمسح عنها عذاباتها السابقة وآلامها ودموعها... كذلك أخي صالح فقد أجبره أبي إجباراً على الزواج من ابنة عمة رغم ارتباطه بقصة حب مع ابنة الجيران ووعده لها بالزواج... وقف أمام أبي يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه وهو يقول:
- أنا لا أريد الزواج إلا من واحدة فقط يا أبي....

ذهل أبي ... بل صعق .. هل هناك من يجرؤ على معارضته في شئ أو التصدي له في أي أمر من الأمور ... فوجئت بصفعة مدوية تردد صداها في بيتنا المفجوع من أبي على صدغ أخي وهو يهدر بصوته القوي:
- ستتزوج ابنة عمك شئت ذلك أم أبيت... فقد اتفقت مع عمك على ذلك ولن تكسر كلامي...

وضع صالح يده مكان الصفعة وهم أكثر من مرة بفتح فمه ليتكلم... ليناقش... ليصرخ أو يعترض لكنه لم يستطع... ولا استطعنا نحن، ولا أمي تفوهت بكلمة غير كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) والتي تعني التسليم والانهزام والمرارة... لا أحد استطاع أن يقف في وجه أبي وقتها أو يناقشه في حق أخي في الاختيار، فهو الذي يتزوج لا أي شخص آخر ... مرض شقيقي فترة طويلة... ثم تزوج ... تزوج بعين وعقل أبيه... تزوج مرغماً يائساً كارهاً... لم تفتني دمعة انحدرت على خده ليلة زفافه وقد رضخ للأمر كأية فتاة يزوجونها رغماً عنها...

شقيقتي سعاد كانت دائمة الخلاف مع زوجة أبي على كل صغيرة وكبيرة. منها تعلمت أن الاقتراب الشديد خطر حتى من أعز الناس... فالبعد راحة وارتياح. ولا أحد يدري ماذا تكنه في أعماقك وما الذي لا تجرؤ على إعلانه... ما يحزنك وما يفرحك... الطفل الذي يسكنك ... كل الأشياء الصغيرة التي تحركك... علمت منها ك لذلك وأكثر... علمني اقترابها الشديد البعد... علمني كلامها الكثير الحذر... علمني سؤالها اللحوح الصمت... خلافاتها الدائمة مع زوجة أبي أودت بها إلي مصير لا تحلم إي فتاة بالوصول إليه... عنادها الدائم أودي بها إلي حرمان من الدراسة وزواج غير متكافئ في مدينة بعيدة... دون أي اعتراض من أحد، فقد خنقت كلمة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) إلي الأبد ... الكلمة التي تزيد من جبروت أبي وقسوته... لم يقل مصير شقيقتي التالية ندى عن مصير سعاد بكت ندى ... طال بكاؤها... حسبته حزناً على فراق سعاد وما آل إليه مصيرها ثم ازداد البكاء حدة حتى غدا نواحاً ثم صراخاً، ذهلت وأنا أراها تصرخ وتمزق ملابسها بجنون...

حضرت زوجة أبي على صراخها... حاولت تهدئتها بشتى السبل، ثم جاء أبي، حاول إسكاتها.. صرخ بها... ثم صفعها بقوة لتزداد صراخا ًوهياجاً ليزداد ضرباً لها وركلاً حتى كادت تموت بين يديه وهو يصرخ:
- ستفضحنا بين الجيران.. إن موتها خير لها من الفضيحة...
واستمر يضربها بقسوة حتى هتفت وهي تنتحب:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
حينها فقط كف أبي عن ضربها ووقف يضرب يداً بيد وهو يقول:
- نفس مرض والدتها... يا إلهي لقد ورثت المرض من والدتها...

لم تهدا شقيقتي ندي بل نامت تلك الليلة نوماً متقطعاً تتخلله نوبات بكاء وصراخ... ولم يرحم أبي شبابها وفتوتها بل قيدها بحبال قاسية ونقلها في الصباح الباكر إلي مستشفى الصحة النفسية ليصمها بوصمة العار إلى الأبد ... مريضة بالفصام... ورفض إخراجها من المستشفي مطالبا برعايتها رعاية كاملة ليتخلص من مسؤوليتها... لم يقف أحد ليناقشه. لم يعترض أحد كائناً من كان طريقه، ليقول له بصوت عال أن هذه ابنتك ووصمة العار التي وصمتها بها لن تزول وستفقدها الأمل في حياة مشرقة بعد ذل ... لن يكون لها سوي أربعة جدران كالحة هي حجرتها في المستشفى ونساء فاقدات العقول بدون أهلية هن شريكاتها في الحجرة والحياة ... وطاقم من الأطباء يفترض فيهم النزهة والعفة يحرقونها بالكهرباء كل يوم لتفقد أية بقية باقية من عقلها... وأقراص مهدئة أو مخدرة- لا فرق- تقضي على حيويتها ونشاطها وشبابها إلي الأبد ... وأنها لن تسامحك أبداً ولن يمهلك الله طويلاً.

وانتهت ندى... ابتلعتها بوابة المستشفي لتضع أسواراً بينها وبين الحياة في الخارج... لا تزور ولا تزار بفضل حكم جائر لا يرضى عنه الله ولا خلقه... شقيقاي الآخران خالد وحمد حالفتهما النجاة بجلديهما من بطش أبي وتحكمة في مصائر الآخرين. فدرسا وعملا وتزوجا بالخارج دون أن يكون له في حياتهما أي قرار أو اختيار... ابتعدا عن الطوفان ليسلما بحملهما فتعلمت منهما درساً لا ينسى أن أبتعد بحياتي عن أي مداولة أو نقاش رغم قربي وابتعادهم وأن أنأى بخططي وقراراتي وأفكاري عن كل ما حولي رغم التصاقهم وألا أكون مضغة في الأفواه أو مادة للبحث والاستقراء... لم يكن قراري عبثاً بل إرثي الهائل من العذابات والأحزان وجهني رغماً عني للاستقلال...

حتى جاء أمر تعييني في هذه القرية البعيدة ووقوف زوجة أبي إلي جواري فقد أثبت لي كل هذا إن طريقي الذي سرته بإرادتي لم يكن إلا صائباً، فحيادي تجاههم جميعاً أورث أبي ليناً تجاهي وحدودي الثابتة مع زوجة أبي ألزمها تضامنا حقيقياً معي ... واكتشفت الأسف حقيقة أبي الرهيبة وهى أن رأيه لا يكون حقيقيا ولا ثابتا بل ينتظر إنساناً ما يعارضه ويثبت له خطأ تصوراته ليعيد في شئ ما هل كان سيصيغ لها سمعاً أم كان سيدير لها ظهره كما أداره لها طوال حياته معها..؟

ابتلعت تساؤلاتي داخلي ومضيت أستعد ليومي الأول في مدرستي الجديدة كمعلمة لأول مرة في حياتي...



وللقصة بقية تابعووووووها
aiwa
aiwa
ّ
سمر مر
سمر مر
آاآاآاآاآاآاه ثم آآه
تقطع قلبيي
اكملي اخيتي
المشتاقة الى الجنه
الجزء الرابع




كان الطريق إلى المدرسة طويلاً موحلاً ومرهقاً... قضيت وأبي معظم الطريق صامتين غير كلمات قليلة متناثرة عن بعد المدرسة ووعورة الطريق ووجوب اتخاذ وسيلة مواصلات جيدة لي في المستقبل... كان أبي يستمع ألي صوت المذياع المنبعث من راديو السيارة وأنا أتأمل الصحراء من حولي المترامية الأطراف... ابتعدنا كثيراً عن الرياض وبدت الطرق أمامي مقفرة منفرة حتى تحولت الطرق المزدوجة إلى طريق واحد متعرج، تتقاطع فية السيارات النادرة القادمة من جهات متعاكسة وعلى جانبي الطريق لا شئ سوى رمال الصحراء حتى نمر ببعض القرى والهجر الصغيرة المتباعدة ثم نعوج لهجير الصحراء من جديد...

سألني أبي بلهجة جافة إذا ما كنت أريد إفطاراً... لم أكن جائعة رغم استيقاظي المبكر في الساعة الرابعة فجراً لكنني كنت قلقة ... حائرة وقضيت ليلة سيئة لم يزرني فيها النوم فأومأت بالإيجاب... دقائق وتوقف أبي عند إحدى محطات البنزين ملأ السيارة بالوقود ثم ابتاع بعض الشطائر التي ما أن شممت رائحتها ورأيت قذارة المطعم الذي ابتاعها منه حتى عافتها نفسي وكرهت مجرد تناولها بيدي... لاحظ أبي نفوري واشمئزازي ... ابتدأ يأكل وهو يقول:
- هذه نعمة من رب العباد ومن عافها فهو جاحد... أستغفر الله.

ومضى طوال الطريق وهو يستغفر ويسب ويشتم، يسب من أو يشتم من لا أدري؟ لكنه كان ناقما عليّ أشد النقمة، ثم أقبلنا على طريق صحراوي غير معبد بعد أن استعان أبي بخريطة يحملها معه انتهي بنا الطريق إلى هجرة صغيرة، بيوتها طينية على النمط القديم المتباعد وكأننا لسنا في القرن العشرين... ابتعدنا عن الحضارة والتقدم وخلفنا التكنولوجيا وراءنا على بعد أكثر من ساعتين ومائتين من الكيلومترات، كانت البيوت طينية متهدمة تتباعد وتتقارب في الصفوف غير مرتبة ومسجد طيني سقفه من الصفيح الصدئ... ترجلنا أمام باب المدرسة.

لم أصدم وأنا أري هذا المبني العتيق الذي لا يختلف عن غيره من البيوت المقامة في هذه الهجرة... دخلت بعد أن قال لي أبي بحدة:
-سأنتظر حتى تخرجي... لا تنسي أن تدبري لك وسيلة مواصلات فلن أكرر هذه الرحلة ما حييت...

أعلم تماما انه لن يكرر تلك الرحلة، فأنا نفسي رغم رغبتي الشديدة في عملي كمدرسة قد كرهت هذه الرحلة وأصبحت ثقيلة على نفسي، فكيف سأكررها يومياً؟... تساءلت وأنا أدلف إلى الداخل برهبة شديدة ونفس متزعزعة ومهزوزة... غاصت قدماي في الأرض الموحلة من آثار المطر فقد كنا في فصل الشتاء... تنقلت بصعوبة حتى وجدت أول حجرة أمامي دخلتها بتردد... رأيت أول أنسانة في هذه الهجرة البعيدة، كانت من دولة عربية شقيقة، رحبت بي وعرفتني بنفسها، هي مديرة المدرسة. ثم اصطحبتني معها إلى الحجرة المجاورة حيث زميلاتي، المدرسات، مضى الوقت وبدأت تغادرني وحشتي وغربتي...

تعرفت إلي زميلاتي: اثنتان من جنسية المديرة و تسكنان معها في بيت طيني في نفس الهجرة وأربعة منهن يحضرن من قرى قريبة من الهجرة واثنتان يحضرن من مدينتي نفسها... لم أتوان عن السؤال عن وسيلة النقل، أفهمنني بأنهن يحضرن يومياً مع أبي راشد وزوجته وهما من مدينتنا ينقلان المدرسات إلى ثلاث قرى مختلفة في سيارة جيمس صالون ومجموع المدرسات المتنقلات معي ثمان بالإضافة لي ... فرحت بأن طرقي أصبحت ممهدة... وسألت عن كل شئ...

ثم قفلت عائدة مع أبي نسير وراء سيارة السائق أبي راشد لكي ندله علي طريق بيتنا فيأتيني صباح الغد لنبدأ العمل... إلى حد ما كنت مستقرة نفسياً، فالطالبات عددهم قليل والفصول لا تربو على خمسة في كل صف منها ثلاث إلى أربع طالبات لا أكثر... المديرة بشوشة طيبة النفس والزميلات ودودات مرحات...

عدنا إلى البيت في الثانية ظهراً... حكيت لزوجة أبي كل شئ ثم ابتدات استعد ليوم الغد ... يومي الحقيقي في مدرستي الجديدة، اليوم الذي سأمارس فيه مهامي الوظيفية وسألتقي فيه بطالباتي القليلات أتحدث معهن وأعلمهن وأعطيهن من كل نفسي، من كل ما أختزنته من تجارب في الحياة... من حبي للعمل... حبي للدنيا بأسرها... كنت مرحة متفائلة, أشعر بأن الدنيا ابتدأت تبتسم لي رغم تكشيرها في وجهي الأعوام السابقة...

همست لنفسي اليوم الأول في التدريس بمرح ونشاط. لم يعكر صفوي سوى المسافة الطويلة المرهقة المخيفة... فمع سقوط الأمطار الشديدة تحتجب الرؤية عن السائق، فيتمهل في السير وهو يدعو الله بصوت عال ان نصل بسلام وألا يحصل لنا مكروه، كنت أرتجف من شدة الرعب ويظل قلبي يخفق بقوة حتى نقف أمام باب المدرسة ثم أتنفس الصعداء. مضت الأيام في المدرسة وأنا مع زميلاتي شيئاً فشيئاً وأتعرف إلى أحوالهن خصوصا من يرافقنني رحلة الذهاب والإياب الطويلة.

فوزية متزوجة وأم لطفلين ورغم خلافاتها المستمرة مع زوجها بسبب الوظيفة إلا أنها مستقرة عائلياً، والأخرى صباح الأقرب لي نفسياً غير متزوجة، لكنها تتمني الزواج بشدة وبأي شكل وكثيراً ما قالت ضاحكة لو خطبنى حارس المدرسة لتزوجته... وهي متخرجة في الجامعة منذ خمس سنوات ولم تتعين في هذه الهجرة سوى منذ عامين فقط، وتنتظر نقلها إلى المدينة بدون أي جدوى فليس لها واسطة ولا زوج يرغب وجودها إلى جواره كما قالت مراراً وتكراراً...

ثم بدأت أتعرف إلى الطالبات القليلات في المدرسة، إنهن أكبر سناً من مستواهن الدراسي بكثير، فأحداهن في العشرين من عمرها أي تقاربني سناً ولا تزال في الصف الرابع الابتدائي... أسماؤهن صعبة... الشقحاء... عبطاء... وضحى رغم وجود بعض الأسماء العادية بينهن. يعانين من الإهمال الواضح في مظهرهن، فثيابهن مهلهلة قذرة وشعورهن طويلة مدهونة بالزيت غالباً... والقمل يرتع رؤوسهن دون حساب.

حاولت كثيراً أن أصلح من أحوالهن رغ تندر الزميلات ووصفهن لي بالجديدة المتحمسة، فكما سمعت منهن أنهن قد حاولن كثيراً رفع المستوي الصحي واللياقي للطالبات بدون جدوى، فإذا تفهمت الطالبة وحاولت، فلن تفهم الأم ولن تحاول، فالأب غالبا ما يكون متزوجا من امرأتين وربما ثلاث أو أربع وك لواحدة من هؤلاء تجرجر وراءها قبيلة من الأطفال فكيف تعتني بهن وأين لها الوقت تتعارك فيه مع الزوجات الأخريات لزوجها... لكنني لم أستمع لهن وحاولت بكل جهدي تعليم طالباتي النظافة كما أعلمهن الدروس اليومية... وذات يوم كنت في فصل رابع أشرح لهن بعد انتهاء الدرس أهمية النظافة وكيفية نظافة الشعر من القمل باستخدام شامبو معين يباع في الصيدليات والاستحمام اليومي وكيف يعود على الجسم بالصحة والنشاط ثم بعد انتهاء الدرس لحقت بي إحدى طالباتي" وضحي" وقالت لي على استحياء:
- أبله إن شعري فيه قمل كثير.
أجبتها بهدوء:
- أعرف يا وضحى ... أعرف.
- أبله إنني أكره القمل واود لو أتخلص منه.
أجبتها بنفس الهدوء:
- حسناً يا وضحى هذا بسيط.
ومضيت أشرح لها الطريقة المبسطة عن كيفية استخدام الشامبو المناسب. أجابت والخجل يعقد لسانها:
- لكن يا أبله... الرياض بعيدة... ونحن لا نذهب إليها أبداً كأهل قريتنا.
ابتسمت وقد فهمت مرادها:
- حسناً يا وضحى... أعدك بأن أجلب لك الشامبو في أقرب فرصة وسأكون سعيدة بهذا جداً.
وفعلاً ابتعت لها الشامبو وأهديتها إياه... لم أنس فرحتها الشديدة به كأنه هدية ثمينة من الذهب، وليس شامبو يباع في البقالات بسعر زهيد.

بعد بأيام قلائل أتتني وفي يدها وعاء وتقول أنه هدية من أمها لي... سعدت كثيراً بتقديرها ووالدتهالي رغم ان الهدية عبارة عن أقراص من اللبن المجفف يطلق عليها اسم" البقل" أو "الأقط" كانت أقراصاً لذيذة جداّ استمتعت بالتهامها مع زميلاتي اللواتي أخذن يتهامسن عن علاقتي بهذه الطالبة...

وفي طريق العودة إلي مدينتنا حكت لي صباح قصة وضحى التي لم تنجب أمها سواها وشقيقها المدرس الذي يكبرها بعشر سنوات ويدرس الأولاد في نفس الهجرة... ولقد أنجبتها والدتها بعد يأس من الإنجاب ففرحت بها كثيراً ودللتها بشكل مبالغ فيه... ولم تنجب غيرها مما اضطر الأب الذي كان يحب الأم كثيراً إلى الزواج مرة أخرى وأنجاب الأولاد و البنات... أشفقت على وضحى كثيراً بعد أن سمعت قصتها فحكيت لزوجة أبي عنها وعن حياتها في دنيا خالية من المسرات والبهجة... فلا تلفاز في القرية ولا جرائد يومية ولا أي شئ يمكن من خلاله معرفة العالم الخارجي وما يدور به.

توثقت علاقتي بوضحى بعد ما لمسته من جدها واجتهادها وتعلقها الشديد بي، فكانت كل يوم تحاول ان تظهر لي بأنها قد أصبحت نظيفة متألقة... وفعلاً فإنها تبز الطالبات جميعاً بالنظافة والترتيب والاجتهاد بالإضافة إلى أخلاقها العالية وحيائها الملحوظ... ثم فوجئت ذات يوم بوالدتها( وهي امرأة لطيفة ودودة تناهز الخمسين من عمرها أو ربما أقل لكن حفر الزمن وأخاديده تبدت على وجهها وحول عينيها) هل كان حزنا ذلك الذي أضاف لعمرها سنوات أم هو خوف ووحدة... لا أدري... لكنني رحبت بها بصدق وحرارة وامتدحت لها ابنتها وضحى. رأيت ألق الفرحة في عينيها واتساع ابتسامتها، ثم صافحتني بود ودعتني لزيارتهم في بيتهم البسيط... اعتذرت لها بصعوبة ذلك حيث إن دوامي الوظيفي لا يسمح لي بمثل تلك الزيارات ثم ودعتني بحنان استشعرته بكل كياني فأيقظت في نفسي جروحاً قد أقفلت على صديد ووعيت على حقيقتي المجردة اليائسة الباشسة, وهي أنني إنسانة محرومة من الأمومة والحنان فلم أعرف لي أماً طوال حياتي الخاوية... بكيت في ذلك اليوم لا أدري لماذا... قطعت رحلة الأياب في بكاء متواصل ... ورفضت الحديث مع زميلات الرحلة اللواتي كان البعض منهن يتحادثن بينما الآخر كن نياماً...

في ذلك اليوم البعيد تسلل الحزن إلى فؤادي فمزقه بلوعة، تذكرت غربة أحياها في بيت ولدت فيه، تذكرت الأم التي كانت كطيف مر بحياتي، كحلم لا جود له... أختي التي استشعرت أمومتها وحنانها لا تزورنا إلا لماماً بسبب الجفاء المتبادل بينها وبين زوجة ابي ولا أستطيع زيارتها لرفض أبي القاطع... وإخوتي المتفرقين على أحزان لا يحدها المحيط.